ترجمة : أ. جنا الدوسري
تزداد الأدلة العلمية يومًا بعد يوم حول أهمية السنوات الأولى من عمر الطفل في تشكيل مسارات النمو العقلي واللغوي. ففي الوقت الذي يتبع فيه الأطفال ذوو النمو الطبيعي نمطًا متوقعًا ومتسلسلًا من المهارات المعرفية واللغوية، تظهر الصورة أكثر تعقيدًا لدى الأطفال الذين يعانون من اضطرابات نمائية مثل اضطراب طيف التوحّد ومتلازمة داون، إذ يصبح التسلسل النمائي أقل انتظامًا ويظهر عليه الانحراف أو التأخر أو التباطؤ.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفروق والتشابهات بين الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحّد (ASD) والأطفال المشخصين بمتلازمة داون (DS)، وذلك خلال فترة عمرية حساسة تمتد من ثلاث إلى ست سنوات. وتهدف الدراسة إلى معرفة ما إذا كان هذان الاضطرابان يشتركان في أنماط تطورية معينة، أو إن كان لكل منهما مسار نمائي يميّزه عن الآخر.
خلفية نظرية
تُعدّ متلازمة داون من أكثر الأسباب الوراثية شيوعًا للإعاقة العقلية، وتتميز بملامح جسدية واضحة وبروفايل معرفي ولغوي يتسم بوجود تأخر ملحوظ في الذاكرة الصوتية، والمهارات الحركية، والقدرات الاستدلالية، إضافة إلى صعوبات كبيرة في اكتساب اللغة والتواصل اللفظي. ورغم ذلك، تُظهر هذه الفئة نقاط قوة في جوانب مثل المهارات الاجتماعية وبعض جوانب التكيّف والسلوك اليومي.
أما اضطراب طيف التوحّد فهو حالة نمائية معقدة تظهر في السنوات الأولى من العمر، ويتميّز بوجود صعوبات في التفاعل الاجتماعي واللغة، إضافة إلى سلوكيات نمطية واهتمامات ضيقة. وتتصف هذه الفئة بقدر كبير من التباين؛ فبعضهم يمتلك ذكاء طبيعيًا، بينما يعاني آخرون من إعاقة عقلية مرافقة. وتُظهر الأبحاث أن أطفال اضطراب طيف التوحّد غالبًا ما يتمتعون بمهارات قوية في بعض الجوانب البصرية أو الإدراكية، مقابل ضعف واضح في فهم اللغة أو استخدامها.
وبالنسبة للغة، تشير الدراسات إلى أن نسبة تتراوح بين 30% إلى 40% من الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحّد لا يكتسبون الكلام كلغة رئيسية للتواصل. ويُعدّ هذا الأمر أحد أهم العوامل المؤثرة في تكيّفهم الاجتماعي وقدرتهم على الاندماج، رغم أن المهارات اللغوية لا ترتبط دائمًا بمستوى الذكاء غير اللفظي، مما يظهر وجود انفصال بين القدرات المعرفية واللغوية لدى هذه الفئة.
وعند مقارنة الأطفال من الفئتين، تظهر اختلافات في أنماط الانتباه المشترك والتواصل؛ فالأطفال ذوو اضطراب طيف التوحّد قد يواجهون صعوبة في الحفاظ على الانتباه المشترك، بينما يتمكن الأطفال ذوو متلازمة داون من ذلك لكنهم يواجهون تحديات في التعبير عن الرغبات والمقاصد.
أهمية الدراسة
على الرغم من وجود العديد من الدراسات التي تناولت كلا الفئتين بشكل منفصل، فإن البحث المقارن بينهما لا يزال محدودًا، خصوصًا في المرحلة العمرية المبكرة. ويأتي هذا البحث ليسد جزءًا من هذا النقص، من خلال مقارنة شاملة للمهارات المعرفية واللغوية والحركية لدى الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحّد وذوي متلازمة داون ضمن الفئة العمرية من 3 إلى 6 سنوات، وهي مرحلة حاسمة في اكتساب المهارات الأساسية.
عينة الدراسة وإجراءاتها
شارك في الدراسة 43 طفلًا، 23 منهم من ذوي متلازمة داون، و20 طفلًا مشخصًا باضطراب طيف التوحّد مصنّفين كحالة من المستوى الثاني ومصحوبين بإعاقة ذهنية. وتم التأكد من تكافؤ المجموعتين من حيث القدرات المعرفية الأساسية لضمان أن الفروق التي تظهر لا تُعزى إلى التفاوت العقلي.
وقد خضع الأطفال لأربع جلسات تقييم فردية، كل واحدة مدتها 45 دقيقة، تم خلالها تطبيق مجموعة من المقاييس المتخصصة التي فحصت النمو العام واللغة والمهارات العصبية النفسية. كما طُلب من الوالدين تعبئة مقاييس جودة الحياة والقدرات التكيفية، بهدف الحصول على صورة شاملة عن أداء الطفل في الحياة اليومية.
الأدوات المستخدمة في القياس
اعتمدت الدراسة على ثلاثة مقاييس عالمية واسعة الانتشار:
1. مقياس Battelle للنمو الشامل
يقيّم هذا المقياس العديد من المجالات مثل التواصل، المهارات الحركية الدقيقة والكبيرة، النمو الشخصي والاجتماعي، والقدرات المعرفية. ويعدّ أحد المقاييس الأكثر دقة في تتبّع نمو الأطفال.
2. مقياس رينيل اللغوي (الإصدار الثالث)
يقيس هذا المقياس مهارات الفهم والتعبير اللغوي، ويعطي تصورًا دقيقًا عن مستوى الطفل اللغوي والمهارات المكوّنة للغة.
3. بطارية NEPSY-II
وهي مجموعة واسعة من الاختبارات التي تقيّم الانتباه، الوظائف التنفيذية، الإدراك الاجتماعي، الذاكرة، القدرة اللغوية، والمهارات الحسية الحركية.
النتائج الرئيسة للدراسة
أظهرت النتائج فروقًا مهمة بين المجموعتين، وجاء أبرزها كالآتي:
1. الأداء الحركي
- تفوّق الأطفال ذوو اضطراب طيف التوحّد على أطفال متلازمة داون في المهارات الحركية الدقيقة.
- أما في المهارات الحركية الكبرى، فقد كان أداء أطفال متلازمة داون أعلى بشكل طفيف، لكن الفروق لم تكن دائمًا ذات دلالة عالية.
2. مهارات التواصل
أظهرت النتائج تفوّقًا واضحًا للأطفال ذوو اضطراب طيف التوحّد في مهارات التواصل الشفهي وغير الشفهي، سواء في الفهم أو التعبير اللغوي.
3. النمو اللغوي
تفوق الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحّد في:
- فهم اللغة.
- إنتاج الجمل والكلمات.
- القدرة على التعامل مع المهام اللغوية ذات المستوى المتوسط.
في المقابل، واجه الأطفال ذوو متلازمة داون صعوبات أكبر في اكتساب المفردات، تركيب الجملة، ومتابعة التعليمات اللفظية.
4. المهارات العصبية النفسية
أشارت الاختبارات إلى اختلافات واضحة بين المجموعتين في مهام:
- التعرف على المشاعر.
- تسمية أجزاء الجسم.
- فهم التعليمات المعقدة.
- التمييز البصري الاجتماعي.
5. الارتباط بين المهارات
أظهرت الدراسة وجود علاقة قوية بين المهارات الحركية ومهارات التواصل، مما يعني أن تطور الحركة قد يسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تطوير قدرة الطفل على التواصل.
مناقشة النتائج
تؤكد نتائج الدراسة وجود اختلافات جوهرية بين المسارين النمائيين لكلا الفئتين. فبينما يظهر الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحّد تفوقًا في بعض الجوانب اللغوية والحركية الدقيقة، يظل التباين داخل الفئة كبيرًا، ما يعكس طبيعة اضطراب طيف التوحّد كطيف واسع.
أما الأطفال ذوو متلازمة داون، فرغم امتلاكهم قدرات اجتماعية أفضل عمومًا، إلا أن تحدياتهم الأكبر تكمن في الجوانب اللغوية والذاكرة الصوتية، إلى جانب صعوبات في بعض المهارات العصبية المعرفية.
هذه الفروق تشير إلى وجود قدر من الانفصال بين القدرات اللغوية والمعرفية لدى كلا الفئتين، مع تأثير مباشر لذلك على الأداء التكيفي.
خلاصة
توفر الدراسة فهمًا أعمق لكيفية تطور الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحّد وأولئك المشخصين بمتلازمة داون خلال سنوات الطفولة المبكرة. وتؤكد النتائج أن كلاً من الاضطرابين له بصمة نمائية خاصة به، مما يلزم تقديم خطط تدخل فردية تأخذ هذه الفروق في الاعتبار، بدلًا من استخدام برامج عامة للجميع.
المرجع:
Developmental Profile in Children Aged 3–6 Years: Down Syndrome vs. Autism Spectrum Disorder
https://www.mdpi.com/2076-328X/14/5/380?utm_source=chatgpt.com





