ترجمة : أ. نوره الدوسري
تخيّلوا أن أمامكم طفلين كلاهما يظهر سلوك العض، وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ السلوك واحد، ولكن عند التعمّق نكتشف أن أحدهما يعض لجذب الانتباه، بينما يقوم الآخر بالسلوك ذاته بهدف الهروب من مهمة لا يرغب بتنفيذها. هذه المفارقة تفتح لنا الباب لفهم عالم تقييم الوظائف السلوكية في تحليل السلوك التطبيقي، إذ إن السلوك الواحد قد يبدو متطابقًا في الشكل، لكنه يختلف جذريًا في الهدف أو المعنى الذي يحمله.
يلعب تقييم الوظائف السلوكية دورًا محوريًا في فهم السلوكيات الصعبة التي يظهرها الأفراد، ويتيح للأهالي والمعلمين والمتخصصين القدرة على تحليل الأسباب الكامنة وراء السلوك بدل الاكتفاء بمظهره الخارجي. وعندما نواجه سلوكًا صعبًا، قد نميل إلى البحث عن حلول سريعة، إلا أن منطق تحليل السلوك التطبيقي يعتمد على فهم الوظيفة وليس الشكل. فإدارة السلوك ليست مجرد محاولة لإيقافه، بل هي فهم لماذا يحدث وما الهدف الذي يحققه للفرد.
هذا الدليل الشامل يقدم معرفة دقيقة حول كيفية إجراء تقييم الوظائف السلوكية، وكيف يساعد هذا التقييم في تطوير تدخلات فعّالة مبنية على وظائف السلوك الفعلية. وعبر فهم الوظيفة الحقيقية، يمكن اختيار استراتيجيات تحقق نتائج أفضل وأكثر استدامة.
تعريف تقييم الوظائف السلوكية
يُعرّف تقييم الوظائف السلوكية بأنه عملية منهجية تقوم على جمع البيانات وتحليلها لتحديد الوظيفة التي يؤديها السلوك. هذه العملية تساعد الأخصائيين على تحديد الأسباب التي تدفع الفرد إلى إظهار السلوك، وبالتالي اختيار التدخلات المناسبة التي تستهدف الوظيفة وليس المظهر.
ومن المهم التمييز بين التقييم الوصفي الذي يركز على وصف السلوك، وبين التقييم الوظيفي الذي يبحث في الهدف من السلوك. فالتقييم الوظيفي يسمح لنا بالانتقال من ملاحظة السلوك إلى فهم الدافع الرئيسي خلفه، وهو ما يجعل التدخلات أكثر دقة وفعالية.
يسعى تقييم الوظائف السلوكية إلى جمع ما يكفي من المعلومات بحيث لا نضطر للجوء إلى التحليل الوظيفي المباشر، وهو إجراء يتضمن تعمّد استثارة السلوك لمعرفة وظيفته، وهو إجراء يحمل مخاطر ولا يجب أن يكون الخيار الأول.
من يجب أن يجري تقييم الوظائف السلوكية؟
يجب أن يقوم بالتقييم أخصائي تحليل سلوك معتمد مثل BCBA أو BCBA-D. ويمكن لأفراد الفريق، كالمعلمين أو الأهالي، تقديم المساعدة خصوصًا في جمع البيانات، لكن الإشراف الكامل يظل من مسؤولية الأخصائي المعتمد لضمان دقة التحليل ومنهجية الإجراء.
الاستعداد لإجراء تقييم الوظائف السلوكية
قبل البدء، يجب جمع معلومات شاملة حول الفرد وسلوكه، بما في ذلك تاريخه السلوكي، المثيرات البيئية، الظروف المحيطة، والسياقات التي يظهر فيها السلوك. كما يجب التعرف على أصحاب العلاقة، مثل الأهل والمعلمين والمعالجين، لأنهم يشكلون مصدرًا مهمًا للمعلومات.
ويجب استبعاد أي سبب طبي أو جسدي قد يفسر السلوك قبل البدء في تنفيذ أي تدخلات سلوكية. هذا الأمر ضروري لأن السلوك قد يكون مرتبطًا بألم أو مرض أو نقص نوم، وهو ما يتطلب تدخلًا طبيًا وليس سلوكيًا.
السلوك عادة يخدم إحدى الوظائف الأساسية الأربع المعروفة اختصارًا بـ SEAT: التحفيز الحسي، الهروب، جذب الانتباه، أو الوصول للشيء المرغوب. وقد تتداخل الوظائف في بعض الحالات، ولكن هذا النموذج يُعد أساسًا لتوجيه التدخل.
كيفية إجراء تقييم الوظائف السلوكية
جمع البيانات وتحديد السلوك المستهدف
أول خطوة هي جمع البيانات عبر الملاحظة المباشرة والمقابلات. الهدف هنا هو تحديد السلوك بدقة وكتابته بطريقة قابلة للقياس. فمن غير المناسب وصف السلوك بعبارات عامة مثل سلوك إيذاء الذات، بل يجب وصفه بدقة، مثل أي حالة يلامس فيها الجبين سطحًا صلبًا بقوة.
يجب التأكد من أهمية السلوك المراد تقييمه، أي هل يعطل التعلم؟ أو يشكل خطرًا؟ أو يسبب عزلة اجتماعية؟ هذه الأسئلة تساعد على تحديد الأولويات.
جمع بيانات خط الأساس
تشمل البيانات تسجيل المثيرات السابقة للسلوك، والسلوك نفسه، والنتائج التي تليه. ويُعد نموذج (المثير، السلوك، النتيجة) أحد أهم الأدوات المستخدمة. ويمكن استخدام الملاحظة المباشرة أو التسجيل بالفيديو إذا كان السلوك غير متوقع.
كما يمكن استخدام استبيانات سريعة مثل مقياس تقييم الدافعية أو أداة فحص التحليل الوظيفي أو الاستبيان المفتوح الذي يسمح بفهم أعمق للوظائف المتداخلة للسلوك.
تطوير الفرضية الأولية
بعد جمع البيانات، يقوم الأخصائي بصياغة فرضية حول الوظيفة المحتملة للسلوك. وتتضمن الأسئلة التي يتم استخدامها ما يلي:
هل يظهر السلوك عند توجيه طلب معين؟
هل توجد أحداث مسبقة مثل قلة النوم؟
ما نوع التعزيز الذي يحصل عليه الفرد بعد السلوك؟
اختبار الفرضية
عندما لا تكون الوظيفة واضحة، قد يلجأ الأخصائي إلى التحليل الوظيفي، وهو اختبار مباشر للأنماط. لكن هذا الإجراء يجب أن يتم بحذر شديد لأنه يسبب استثارة متعمدة للسلوك.
جمع بيانات إضافية
قد يحتاج الأخصائي إلى توسيع قاعدة البيانات لدعم الفرضية أو تعديلها. فالتقييم عملية ديناميكية تعتمد على المراجعة المستمرة.
تحليل البيانات وبناء خطة التدخل
بعد جمع البيانات وتحليلها، يبدأ الأخصائي في اكتشاف الأنماط التي تكشف العلاقة بين المثيرات والنتائج. ومن خلال هذا التحليل يتم تحديد الوظيفة الحقيقية للسلوك، وهي النقطة التي تُبنى عليها خطة التدخل.
وتشمل الخطة عادة تعليم مهارات بديلة للسلوك غير المرغوب فيه، وتعديل البيئة، وتطبيق أساليب تعزيز مناسبة تعتمد على الوظيفة المحددة للسلوك.
ويجب متابعة الخطة باستمرار وتعديلها حسب الحاجة، مع الاحتفاء بالتقدم ومراجعة النقاط التي تحتاج إلى تعديل.
يُعد تقييم الوظائف السلوكية أداة قوية تساعد على فهم الأسباب الحقيقية للسلوكيات الصعبة. وعبر استخدام هذه الأداة، يمكن للأهالي والمعلمين والأخصائيين بناء تدخلات فعّالة تعتمد على العلم وليس التخمين. ويوفر هذا التقييم أساسًا صلبًا لتحقيق تغيير سلوكي إيجابي ومستدام، ودعم الأفراد للوصول إلى أقصى إمكانياتهم.
المرجع
How to Do a Functional Behavior Assessment in ABA: A Comprehensive Guide
https://howtoaba.com/how-to-do-a-functional-behaviour-assessment/





