الأبعاد السبعة لخدمات تحليل السلوك التطبيقي

خطوات مبكرة.. لتعزيز التواصل واللغة لدى الأطفال المشخصين بمتلازمة داون

 

ترجمة : أ. جنا الدوسري 

يمثل تطوير المهارات الاجتماعية لدى الأطفال المشخصين بمتلازمة داون تحديًا مهمًا، إذ تلعب هذه المهارات دورًا أساسيًا في نمو الطفل اللغوي والاجتماعي منذ سنواته الأولى. إذ أن القدرة على التواصل بفاعلية مع الآخرين ليست مجرد مهارة تعليمية، بل هي حجر الأساس لبناء الثقة بالنفس والقدرة على التفاعل الاجتماعي الذي يؤثر لاحقًا على اكتساب اللغة ومهارات التعلم في المراحل الدراسية المبكرة. ومن هنا تأتي أهمية التدخل المبكر الذي يركز على تنمية هذه المهارات قبل دخول الطفل المدرسة، حيث يكون تأثيرها طويل الأمد وأكثر فاعلية.

يُعتبر التواصل المبكر مع الأهل أحد الركائز الأساسية التي تساعد الأطفال على التفاعل مع العالم من حولهم، ويعمل على تعزيز قدراتهم على الانتباه المشترك، أي القدرة على مشاركة الانتباه والاستجابة للإشارات الاجتماعية من الآخرين. هذه المهارة تُعد أساسية ليس فقط لتعلم اللغة، بل أيضًا لتطوير القدرة على تفسير وفهم مشاعر وسلوكيات الآخرين، وبالتالي فهي تؤثر بشكل مباشر على النمو الاجتماعي والعاطفي للطفل.

في هذا السياق، تم تصميم برنامج تدخل مبكر يُقدمه الأهل بهدف تعزيز مهارات التواصل الاجتماعي للأطفال الصغار المشخصين بمتلازمة داون. يركز البرنامج على تدريب الأطفال على الانتباه المشترك وملاحظة التفاعلات الاجتماعية والاستجابة لها بطرق مناسبة. ويعتمد البرنامج على سلسلة من الأنشطة اليومية التي يشارك فيها الأهل أطفالهم بشكل مستمر، مع تزويدهم بالإرشادات والدعم المستمر من المتخصصين في علاج النطق واللغة، لضمان تطبيق هذه الأنشطة بشكل صحيح وفعّال.

أظهرت التجارب الأولية مع هذا البرنامج أن مشاركة الأهل كانت عالية، حيث تمكنوا من متابعة الأنشطة اليومية بانتظام والالتزام بالتوجيهات المقدمة لهم. وأكد معظم الأهل أن البرنامج كان سهل التطبيق، إذ وفر لهم أدوات عملية ملموسة للتفاعل مع أطفالهم بطريقة ممتعة وفعالة. هذا التفاعل المباشر لم يقتصر على تحسين مهارات الأطفال فحسب، بل أسهم أيضًا في تعزيز قدرة الأهل على فهم احتياجات أطفالهم وتقديم الدعم الملائم لهم، ما ساعد على خلق بيئة تعليمية منزلية إيجابية.

كما أبدى المختصون في مجال علاج النطق واللغة رضاهم عن البرنامج، مشيرين إلى أن التدخل كان مقبولًا وسهل الدمج ضمن جدول الرعاية المعتادة للأطفال. وقد ساعد إشراف المتخصصين وتوجيههم المستمر الأهل على استخدام استراتيجيات فعّالة لتعزيز مهارات التواصل لدى أطفالهم، ما عزز من الثقة في قدرة الأهل على المساهمة في نمو الطفل اللغوي والاجتماعي.

إحدى النقاط الأساسية التي ساهمت في نجاح البرنامج كانت الالتزام المستمر من قبل الأهل، إذ أبدوا اهتمامًا كبيرًا بتطبيق الأنشطة اليومية ومتابعة تقدم أطفالهم. هذا الالتزام أسهم في تعزيز فعالية التدخل، حيث أدى إلى تحسين قدرة الأطفال على التواصل الاجتماعي والاستجابة للانتباه المشترك، وتطوير مهاراتهم اللغوية بشكل ملحوظ. بالإضافة إلى ذلك، لوحظ تحسن في السلوك التكيفي للأطفال، بما يعكس التأثير الإيجابي طويل المدى لهذا النوع من التدخل على قدراتهم الأكاديمية والاجتماعية.

ولم تقتصر فوائد البرنامج على الأطفال فقط، بل امتدت لتشمل الأهل أنفسهم. فقد أظهر الأهل شعورًا بالثقة في قدرتهم على دعم نمو أطفالهم، وشعروا بالارتياح النفسي نتيجة رؤية تحسن مهارات أطفالهم. هذا الشعور بالمساهمة الفعلية في نمو الطفل كان له أثر إيجابي على مستوى القلق والاكتئاب لدى الأهل، مما ساعد على تعزيز بيئة عاطفية مستقرة للأطفال. إن مشاركة الأهل بشكل مستمر وفهمهم لأهداف التدخل ساهم في تحسين جودة التفاعل الأسري وتعزيز الروابط بين الأهل والأطفال، وهو عامل أساسي في دعم التطور الاجتماعي واللغوي.

إلى جانب الجوانب التعليمية والسلوكية، أظهرت التجربة أن البرنامج يمثل خيارًا منخفض التكلفة نسبيًا، ما يجعله قابلًا للتطبيق على نطاق واسع ضمن برامج الدعم المجتمعي والصحي. إذ يمكن للأهل والمختصين الاستفادة من الموارد المتاحة دون الحاجة إلى استثمارات مالية كبيرة، ما يعزز إمكانية تعميم التدخل وتحقيق أثر واسع على مستوى المجتمع. ويشير هذا إلى أن التدخل المبكر الذي يقدمه الأهل يمكن أن يكون استراتيجية فعّالة لتحقيق تحسينات ملموسة في مهارات اللغة والتواصل لدى الأطفال، دون الحاجة إلى ميزانيات كبيرة أو تجهيزات معقدة.

تؤكد هذه التجربة أيضًا على أهمية الدمج بين الدعم الأسري والخدمات المتخصصة. فالبرنامج لم يقتصر على الأنشطة المنزلية اليومية فحسب، بل تضمن أيضًا إشرافًا وتوجيهًا مستمرًا من المتخصصين، ما أتاح للأهل فرصة الاستفادة من خبرة المعالجين وتحقيق أقصى استفادة ممكنة من التدخل. يظهر هذا التعاون بين الأهل والمتخصصين كعنصر محوري في تعزيز فعالية البرنامج، إذ يساهم في استمرار التعلم وتحسين مهارات الطفل على المدى الطويل، كما يعزز من قدرة الأهل على تقديم دعم فعّال ومتسق.

بالإضافة إلى ذلك، أثبت البرنامج إمكانية تطبيقه ضمن خدمات الرعاية الصحية المعتادة، ما يجعله نموذجًا قابلًا للتوسع على نطاق وطني أو دولي. إذ يمكن للأهل الوصول إلى الدعم والإرشادات من خلال خدمات النطق واللغة المحلية، بينما يواصل الأطفال ممارسة الأنشطة اليومية في المنزل. هذه الميزة تجعل التدخل متاحًا لشريحة أكبر من الأطفال المشخصين بمتلازمة داون، مع ضمان جودة التطبيق والالتزام بأساليب التدخل المثبتة علميًا.

توضح نتائج هذه التجربة أن التدخل المبكر الذي يقدمه الأهل يمثل خطوة استراتيجية لتحسين مهارات التواصل واللغة منذ الطفولة المبكرة، ما يمهّد الطريق لتعلم أكثر فعالية وتفاعل اجتماعي أوسع عند دخول المدرسة. ويشير نجاح هذا البرنامج إلى أن إشراك الأهل بشكل نشط في التدخل المبكر يمكن أن يكون له أثر مضاعف، حيث يستفيد الأطفال من الخبرة والدعم اليومي، بينما يكتسب الأهل ثقة وقدرة على دعم نمو أطفالهم بشكل عملي ومستمر.

في الختام، تبرز هذه التجربة أهمية التركيز على تطوير مهارات التواصل المبكر للأطفال المشخصين بمتلازمة داون، وتوضح أن التدخلات التي يقدّمها الأهل، بدعم وإشراف المتخصصين، يمكن أن تؤدي إلى تحسينات ملموسة في اللغة والسلوك التكيفي والجوانب النفسية للأهل. وتشير النتائج إلى جدوى تنفيذ برامج أوسع نطاقًا ضمن خدمات الرعاية الصحية، لتوفير دعم مستدام للأطفال وأسرهم منذ السنوات الأولى من حياتهم، ما يعزز فرص نجاحهم الأكاديمي والاجتماعي مستقبلاً، ويضع أسسًا قوية لبناء مجتمع أكثر تمكينًا للأطفال المشخصين بمتلازمة داون.

 

المرجع:

Evaluating an early social communication

intervention for young children with Down

syndrome (ASCEND): results from a feasibility

randomised control trial

https://link.springer.com/content/pdf/10.1186/s40814-024-01551-y.pdf