اضطراب طيف التوحد والانفصال عن الواقع: هل يوجد علاقة بينهما؟
ترجمة : أ. شروق السبيعي
من الشائع أن يُظهر على الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد سلوك الانسحاب الاجتماعي، خاصة في بعض الأوقات. وقد يبدو ذلك وكأنه انفصال عن البيئة المحيطة، مع ميل قوي لقضاء الوقت بمفردهم.
وفي المقابل، يتميز الانفصال عن الواقع بفصل أفكار الأفراد أو شخصيتهم عن محيطهم الخارجي.
جميعنا نمر بحالات من الانفصال عن الواقع في أوقات معينة، مثل عندما نقود السيارة بشكل تلقائي في طريقنا اليومي أو نسرح في التفكير خلال النهار. ومع ذلك، فإن الانفصال عن الواقع واضطراب طيف التوحد قد يصاحبهما عدد من الصعوبات الفريدة.
إحدى هذه الصعوبات هي الجمود الحركي (catatonia)، والذي يتميز بالانسحاب من الآخرين، والتحديق، والبقاء ساكنين لفترة طويلة، بالإضافة إلى غياب الوعي. وهناك جانب آخر يثير القلق في ما يتعلق باضطراب طيف التوحد والانفصال عن الواقع، يتمثل في ارتفاع مستوى القلق والتعرض للصدمات، وقد يؤدي ذلك إلى انسحاب اجتماعي يظهر من خلال سلوكيات تشير إلى الانفصال عن الذات أو الواقع.
فهم الانفصال عن الواقع
الانفصال عن الواقع هو مصطلح في الصحة النفسية يشير إلى انفصال الأفراد عن التفكير أو الوعي. قد يتضمن ذلك:
- شعور عام بالانفصال عن الجسد.
- مشاكل في الذاكرة.
- تغيّر جذري في السلوك أو الشخصية المعتادة.
غالبًا ما يكون الانفصال عن الواقع نتيجة لحماية الذات من صدمة عاطفية أو قلق شديد. ومن المهم أن نلاحظ أن الانفصال عن الواقع ليس حالة واحدة، بل يتضمن عدة أنواع تختلف في مظاهرها وتأثيراتها.
الأنواع الأربعة الرئيسية للانفصال عن الواقع المعترف بها رسميًا هي:
- انفصال عن الذات (Depersonalization)
- انفصال عن الواقع (Derealization)
- فقدان الذاكرة (Amnesia)
- ارتباك أو تغير في الهوية (Identity confusion or alteration)
الانفصال عن الذات هو الشعور وكأن الأفراد خارج أجسادهم أو منفصلين عنه، مثل القيام بمهمة متكررة دون وعي.
الانفصال عن الواقع هو رؤية البيئة المحيطة على أنها غير حقيقية، مثل الشعور و كأنكم في حلم وأنتم مستيقظين.
فقدان الذاكرة هو نسيان معلومات مهمة عن الذات، وغالبًا ما يحدث كوسيلة لحجب صدمة نفسية.
ارتباك أو تغيّر في الهوية يشير إلى تغيير في الشخصية، وقد يُلاحظ أحيانًا في حالات اضطراب تعدد الشخصيات كاستجابة لصدمة شديدة.
ما هو الانفصال عن الواقع في اضطراب طيف التوحد؟
قد يختبر الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد الانفصال عن الواقع بطرق مختلفة. في بعض الأحيان، قد يظهر ذلك على شكل تجمّد مفاجئ أو حالة من الجمود الحركي. كما قد يواجهون صعوبة في التعرف على مشاعرهم أو التعبير عنها، وهو ما يُعرف بحالة الأليكسيثيميا (صعوبة في تحديد المشاعر).
بالإضافة إلى ذلك، قد يجدون صعوبة في التعرف على الإشارات الصادرة من أجسامهم، مثل الشعور بالجوع أو التعب، وهو ما يُعرف بـ الإحساس الداخلي (Interoception). وقد يواجهون أيضًا صعوبات في تحديد موقع أجسامهم في الفضاء أو في التعرف على الوجوه، وهي مشكلات ترتبط بضعف الإحساس بالجسم (Proprioception) وعُسر التعرّف على الوجوه (Prosopagnosia).
فعلى سبيل المثال، عندما نلاحظ فردًا يحدق في الفراغ لفترة طويلة وكأنه “سرح”، فقد يكون في حالة جمود حركي. يجب على الطبيب المختص التمييز بين هذه الحالة ونوبات الصرع، التي قد تبدو مشابهة في بعض الأحيان.
في حالة الأليكسيثيميا، لا يستطيع الأفراد تحديد شعورهم في موقف معين. فمثلًا، إذا دخلوا في خلاف مع زملائهم، لا يكونون قادرين على التمييز ما إذا كانوا يشعرون بالغضب أو الحزن أو الفرح.
أما في ما يتعلق بالإحساس الداخلي، فقد يشعر الأفراد بالإحباط أو الغضب دون أن يدركوا أن السبب يعود إلى حالة جسدية مثل التعب أو المرض.
وفي المقابل، يستطيع معظم الناس المشي دون تفكير أو لمس أنوفهم وأعينهم مغمضة، بينما يواجه الأفراد الذين لديهم اضطراب في الإحساس بالجسم صعوبة في أداء هذه المهام.
أما التعرف على الوجوه، فهو أمر طبيعي وسهل لكثير منا، لكن الأفراد المشخصين بعسر التعرّف على الوجوه يجدون صعوبة في التمييز بين الوجوه المختلفة، مما قد يجعلهم يتجنبون التفاعل الاجتماعي.
أسباب الانفصال عن الواقع في اضطراب طيف التوحد
من أبرز الأسباب الشائعة للانفصال عن الواقع هي الصدمات التي يتعرض لها الأفراد (سواء جسدية أو نفسية أو جنسية). كما أن القلق الاجتماعي وصعوبة التواصل قد يؤديان إلى قلق متكرر وانفصال عن الواقع.
يواجه الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد غالبًا من حساسية مفرطة تجاه الأصوات أو اللمس أو المحفزات البيئية، وقد يكون الانفصال عن الواقع بمثابة “قاطع تيار” عصبي يفصل الوعي عن العالم الخارجي حين يُرهق الجهاز العصبي.
كما أن صعوبة التعامل مع المشاعر قد تؤدي إلى توتر كبير، مما يساهم في الانفصال عن الواقع كطريقة لتخفيف الضغط النفسي.
كيف يؤثر الانفصال عن الواقع على الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد؟
رغم أن الانفصال عن الواقع موجود لدى عامة الناس، إلا أن الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد يواجهون تحديات إضافية:
- ما بين 44% و 97.8% من الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد تعرضوا للتنمر، وهو عامل رئيسي في حدوث الانفصال عن الواقع.
- كذلك، من 20% إلى 57% من الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد مشخصين بالقلق الاجتماعي، مما يجعل التواصل مع الآخرين صعبًا.
- الشعور بالعزلة أو التمييز قد يجعلهم ينسحبون إلى عالم خيالي خاص بدلًا من مواجهة الواقع.
كما أن مشاكل الحساسية الحسية تدفع البعض إلى القيام بسلوكيات متكررة كوسيلة للتعامل مع الضغط، أو لتخفيف الانزعاج الجسدي. أحيانًا، الهروب إلى الخيال يكون وسيلة لتجنب التفاعل الاجتماعي الصعب.
عند مواجهة تقلبات انفعالية تؤثر على استقرارهم النفسي، قد ينفصلون مؤقتًا عن البيئة المحيطة كاستجابة دفاعية فورية.
كذلك، الصعوبات في الوظائف التنفيذية مثل التخطيط، التذكر، والتفكير المرن قد تؤدي إلى الانفصال عن الواقع، مما يشكل وسيلة للهروب الذهني تساعد في تخفيف التوتر خلال الأوقات الصعبة.
كيفية التعامل مع اضطراب طيف التوحد و الانفصال عن الواقع
على الرغم من أن فهم أسباب الانفصال عن الواقع لدى الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد أمر مفيد، إلا أن السؤال الأهم هو: كيف نتعامل مع اضطراب طيف التوحد والانفصال عن الواقع؟ أولًا، يجب الأخذ بعين الاعتبار المشاكل الأخرى التي قد تشبه أعراض الانفصال، مثل نوبات الصرع أو اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، إذ يمكن أن تسهم هذه المشاكل في تفاقم السلوك أو حتى تكون السبب الرئيسي له.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مساعدة الأفراد على البقاء حاضرين وواعين في اللحظة يمكن أن تكون فعّالة، وذلك من خلال تدريبهم على مهارات التركيز الذهني (اليقظة الذهنية) مثل:
- التركيز على التنفس.
- الانتباه للإشارات الجسدية.
- إدراك أن البيئة المحيطة آمنة.
تشمل الاستراتيجيات العلاجية الفعالة الأخرى ما يلي:
- العلاج المعرفي السلوكي (لتحديد الأفكار السلبية وتعديلها)
- العلاج السلوكي الجدلي (لاكتساب مهارات التعامل مع المشاعر القوية)
- إزالة التحسس بحركات العين (وهو علاج يجمع بين العلاج المعرفي وتمارين بصرية لتقليل تأثير الصدمات)
التعامل مع الصعوبات بالدعم والفهم
من المهم أن نفهم أن كل فرد مشخص باضطراب طيف التوحد فريد من نوعه، وبالتالي تختلف استراتيجيات العلاج.
قد يحتاج العلاج إلى وقت حتى يتمكن الأفراد من بناء ثقتهم بأنفسهم وتعلم كيفية مواجهة مخاوفهم. من المهم أن يُظهر المحيطون بهم التعاطف والصبر، وأن يكونوا واعين بأن التقدم قد يحدث بشكل تدريجي.
الهدف ليس الكمال، بل تحسن مستمر.
بدعم من الآخرين، يستطيع الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد مواجهة الكثير من مخاوفهم دون اللجوء إلى الانفصال عن الواقع، من خلال: التعرف على المحفزات، الالتزام بالروتين، ممارسة الوعي التام. وعندها، قد يدركون أن العالم مليء بالدفء والأمان.
الأسئلة الشائعة:
س: هل الانفصال عن الواقع شائع في اضطراب طيف التوحد؟
ج: نعم، يُعتقد أن حوالي 10-15% من الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد يكون لديهم مشكلة الانفصال عن الواقع إلى جانب تشخيصهم باضطراب طيف التوحد.
س: كيف يبدو الانفصال عن الواقع عند الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد؟
ج: يختلف الانفصال عن الواقع حسب نوعه. فقد يظهر الجمود الحركي على شكل “تجمد ذهني” أو توقف مفاجئ عن الاستجابة، بينما يشبه فقدان القدرة على التعبير العاطفي الشعور وكأنكم في بلد غريب لا تتحدثون لغته. أما الانفصال الجسدي، فقد يظهر على شكل نوبات غضب يصعب تفسير أسبابها، في حين أن عُسر التعرّف على الوجوه (Prosopagnosia) يجعل من الصعب تمييز الوجوه والتعرف على الأفراد.
س: هل اضطراب طيف التوحد ناتج من صدمة؟
ج: لا يوجد سبب واحد مؤكد لاضطراب طيف التوحد، لكن أنماط السلوك المرتبطة بالانفصال عن الواقع قد تكون ناتجة من صدمة نفسية، سواء عند الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد أو غيره، وتشمل هذه الصدمات التعرض للإساءة الجسدية أو النفسية أو الجنسية.
س: هل يمكن أن يسبب اضطراب طيف التوحد نوبات فقدان الاتصال بالواقع؟
ج: لا يسبب اضطراب طيف التوحد نوبات فقدان الاتصال بالواقع بحد ذاته، لكن الأفراد المشخصين باضطراب طيف التوحد قد يكون لديهم حالات أخرى مثل الفصام أو اضطراب ثنائي القطب، مما يجعلهم أكثر عرضة لنوبات فقدان الاتصال بالواقع مقارنة بغيرهم.
المرجع:
Autism and Dissociation: Is There a Connection?
https://www.autismparentingmagazine.com/autism-and-dissociation/
