ترجمة: أ. رزان بن دهر
“ما قصة هوسه بالديناصورات؟!”
“إنها لا تتوقف عن الحديث عن أفلام ديزني!”
“لو أن هؤلاء الأطفال قضوا نصف الوقت في الدراسة بدلًا من اللعب ببطاقات البوكيمون لكان حالهم أفضل بكثير.”
هذه هي الردود التي غالبًا ما تقال عن الاهتمامات الخاصة لدى الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد، اهتمامات تُعد في نظر الملاحظين لها أقرب إلى الهوس، لكن تتفق الكاتبة مع بريزانت (2015) ووالدة طفل مشخص باضطراب طيف التوحد، وتقتبس كلامه حيث أنه منح هذه الاهتمامات اسماً أكثر عدالة: (الاهتمامات الخاصة) (ص. 54).
بغض النظر عن المصطلح المستخدم فإن استعداد الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد على مشاركة اهتماماتهم الخاصة غالبًا ما تُفاقم نظرة المجتمع السلبية تجاههم، فالمجتمع يميل إلى تفسير هذا الاستعداد باعتباره دليلاً على عدم قدرة الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد على إدراك وجهات نظر الآخرين.
لكن لنبدأ من البداية ما علاقة كل هذا بالتواصل؟
عند الحديث عن اضطراب طيف التوحد من المفيد توسيع نطاق البحث ليتجاوز التواصل اللفظي، ففي حالات اضطراب طيف التوحد، غالبًا ما تفتقر اللغة (وإن لم يكن ذلك دائمًا) إلى الدقة والثراء اللازمين لبناء العلاقات.
ومع ذلك، فإن الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد لا يزالون بشرًا، فقصور التواصل اللفظي يتزامن مع الحاجة الإنسانية إلى العلاقات، والتواصل، ونوع من التفاهم المتبادل، ومع أخذ ذلك في الاعتبار، ماذا لو كان التواصل المثمر والهادف يحدث في مجال الاهتمامات الخاصة؟
هناك أبحاث تدعم هذا المفهوم، حيث تقدم لابر- وارن (2021) الملاحظة التالية:
تكشف الأبحاث التي أُجريت على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية أن الاهتمامات الخاصة ذات قيمة كبيرة للأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد، قد تكون في بعض الأحيان بداية لمسار مهني، بالإضافة إلى أنها تعزز الثقة بالنفس بشكل جيد، وتساعد الأطفال على التعامل مع مشاعرهم، كما تشير الدراسات إلى أنها يمكن أن تساعد الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد على اكتساب المهارات الاجتماعية والتعلم (الفقرة 6).
وفي جزء آخر من المقالة، تستشهد بدراسة تُظهر كيف يحدث هذا بشكل عملي:
وجدت وينتر- ميسييرز وزملاؤها أن التحدث عن الاهتمامات الخاصة يُقلل من سمات اضطراب طيف التوحد الأخرى، فعلى سبيل المثال، قلّ تململ الأطفال، وزادت نسبة التواصل البصري، وتحولت لغتهم من تعليقات غامضة إلى جمل معقدة وغنية بالمفردات، كما أصبح العديد من الأطفال قادرين بشكل أفضل على بدء المحادثات وتنظيم أفكارهم، وتقول وينتر-ميسييرز: ‘لقد وجدنا هذا التأثير في كل مجال رئيسي من مجالات القصور دون استثناء لقد كان أمرًا مذهلًا (لابر- وارن، 2021، الفقرة 15).
لكن الأمر لا يقتصر على أخذ أحد الاهتمامات ومحاولة استخراج التواصل منه، بل أود أن أقول أن التواصل موجود بالفعل لدى الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد، وبالطبع يحتاج إلى صقل وتطوير، لكن هذه الاهتمامات الخاصة تشكّل لغة خاصة بها تستحق الانتباه.
وبصرف النظر عن الفروقات بين التواصل اللفظي وغير اللفظي دعونا نلاحظ شيئًا مشتركًا بينهما، فالكلمات مثل غيرها من أشكال التواصل هي رموز أي أنها وسائط تشير إلى ما هو أبعد من ذاتها.
وأعتقد أن النظر في أصل كلمة (رمز) (Symbol) قد يكون مفيدًا لنا فكلمة (رمز) مشتقة من الكلمة اليونانية (Symbolon)، والتي تشير إلى ممارسة شائعة في العصور اليونانية – الرومانية القديمة، كان الناس يتلقون نصف غرض ما كإناء وعندما يرسل شخص ما رسالة، يُرفق معها النصف الآخر، فإذا تطابق النصفان، كان المستلم يستطيع التأكد من أن الرسالة قد جاءت من المرسل المفترض. كان الأمر يتعلق بالتعرف والتطابق.
التعرّف هو مسألة تطابق أو توافق، وعلى الرغم من أننا معتادون على التفكير في هذا السياق ضمن إطار التواصل الكتابي بين طرفين، إلا أن هذا التوافق يمكن أن يحدث أيضًا بين التجربة الداخلية والخارجية للأطفال.
ما نوع التجربة (الداخلية) و(الخارجية) الذي أقصده؟ بالطبع، يشمل ذلك التوافق العام بين الذات والآخرين، وكذلك بين الذات والعالم، لكننا بحاجة إلى التعمق أكثر، هناك نوع من المثالية في كل من الداخل والخارج، وهي المثالية التي ننظر إليها ضمنيًا عند البحث عن التوافق وهذه المثالية هي (الاتحاد أو الوحدة).
فالوحدة علامة على الحياة، نرى ذلك في الطريقة التي يُعبَّر بها عن الموت من خلال نقيضه: التفكك، ويمكن أن تشير الوحدة إلى الأمان بمعنى الحفاظ على الذات، لكنها قد تشير أيضًا إلى النمو والحركة نحو الخارج، وهو ما يدل على نوع مختلف من الوحدة أي وحدة الشيء الذي يمر بعملية تطور ليصبح أكثر تعبيرًا عن ذاته، وأكثر امتلاكًا لهويته.
وهنا نعود إلى ظاهرة الاهتمامات الخاصة لدى الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد.
غالبًا ما يقلق المربون من أن الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد يقضون وقتًا وطاقةً مفرطة في أمور غير مهمة، وينبغي لهم بدلًا من ذلك أن يركّزوا على الأشياء المهمة وعلى الأشخاص الموجودين في حياتهم.
الانتباه لا يقتصر على الاستماع إلى معلمك وهو يشرح معادلة الدرجة الثانية، ولا على تكرار التعليمات التي أعطتك إياها والدتك لتنظيف غرفتك، بل هو في جوهره تعبير عن ذلك التوافق بين الذات والعالم، بين (الداخل) و(الخارج)، الذي يسعى إليه كل واحد منا.
يمكن أن يبدو العالم مكانًا غير مرحِّب للأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد، فالحساسية الحسية تؤثر على قدرتهم على التحرك في بيئاتهم بثقة، وسوء الفهم الناتج عن عدم الوعي الاجتماعي وطرق التفكير المختلفة قد يجعل من بناء العلاقات حتى مع أفراد الأسرة أمرًا صعبًا، لكن عندما ينخرطون في اهتماماتهم الخاصة يجدون الفرح، ففي موضوعات اهتمامهم يشعر الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد بأن العالم الخارجي (ينتبه إليهم) أي أنهم يجدون ذلك التوافق بين الذات والعالم، الذي غالبًا ما يكون بعيد المنال في الظروف الاعتيادية.
إن الفرح الذي يمكن أن يجده الأطفال في اهتماماتهم يعيدنا إلى مفهوم الوحدة، فقد اعتاد الفلاسفة أن يعرّفوا الفرح بأنه الراحة أو السكون في موضوع يبعث على السرور، وهذه (الراحة) بطبيعتها تعني نوعًا من جمع الذات سواء من خلال الوضع الجسدي بمعنى الاستقرار، أو في الحياة الداخلية بمعنى تركيز كل القدرات والانتباه في نقطة واحدة، وهي تعني أن الإنسان يشعر بأنه في موطنه، داخل نفسه وفي العالم من حوله، وهنا تظهر الوحدة بوصفها شعورًا بتكامل الذات من الداخل، وانسجامًا متنوعًا من الخارج.
ولا ينبغي أن ننسى الجانب العاطفي في الاهتمامات الخاصة فالعاطفة يمكن أن تكون علامة على حركة تتجاوز الذات.
وبالطبع، قد يذهب الاهتمام إلى أبعد من الحد المطلوب، فقد يتحول كما يخشى البعض إلى عائق أمام النمو الاجتماعي والشخصي للأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد، وهنا أود أن أقول أن القدرة على مشاركة هذه الاهتمامات مع الآخرين تلعب دورًا مهمًا.
تأمل في ملاحظة قالها لويس (1994) ذات مرة بشأن الجانب الاجتماعي من المتعة الشخصية:
أعتقد أننا نستمتع بمدح ما نحب لأنه لا يعبّر فقط عن المتعة بل يُكملها أيضًا، من المحبط أن تكتشف كاتبًا جديدًا ولا تستطيع أن تخبر أحدًا عن مدى روعته؛ أو أن تصل فجأة عند منعطف الطريق إلى وادٍ جبلي مهيب لم تكن تتوقعه ثم تُجبر على الصمت لأن من معك لا يهتمون به أكثر مما يهتمون بعلبة معدنية مرمية في حفرة (ص. 179).
هذا يضع مشاركة الاهتمامات من قبل الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد، مع تجاهل واضح لمستوى اهتمام الطرف الآخر، في المنظور الصحيح، فـ بالنسبة للأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد ليست مشاركة الاهتمامات الخاصة دليلًا على وجود قصور اجتماعي بل على العكس إنها دليل على وجود حاجة اجتماعية لديهم تمامًا كما هو الحال لدى أي طفل آخر، ويتضح ذلك في حقيقة أن فرحة الاهتمام الخاص تظل ناقصة ما لم يكن هناك من يشاركهم إياها.
فعندما ينخرط الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد في اهتماماتهم الخاصة، فإنهم يقولون لكل من هو مستعد للاستماع: هنا يكمن صوتنا هذا ما يخاطبنا إذا كنا سنرتبط بالعالم ونغوص في فوضى العلاقات الاجتماعية فإن أعظم فرصنا للنجاح تكمن في الطرق التي تنطلق من هنا، من هذا المكان الآمن، هنا في الاهتمامات التي تصفونها بـ (الهوس)، تكمن الشرارة التي ستغذي نمونا وتمكننا من فعل ما تريدون منا القيام به.
أنصتوا جيدًا لهذه الاهتمامات الخاصة فهي أبلغ من الكلمات.
المرجع:
الاهتمامات الخاصة لدى الأطفال المشخصين باضطراب طيف التوحد كشكل من أشكال التواصل
https://autismspectrumnews.org/the-autistic-special-interest-as-a-form-of-communication/





