الأبعاد السبعة لخدمات تحليل السلوك التطبيقي

حين يتأخر التشخيص: اضطراب طيف التوحد في مرحلة البلوغ وتمييزه عن الإعاقة الذهنية

 

ترجمة: أ. سما خالد

المقدمة
اضطراب طيف التوحد (ASD) لطالما ارتبط في الأذهان بمرحلة الطفولة، إلا أن إدراك وجود  أفراد بالغين لم يتم تشخيصهم إلا بعد سنوات من المعاناة، فتح المجال لفهم جديد حول طبيعة اضطراب طيف التوحد في مراحل لاحقة من العمر. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن كثيرًا من الاشخاص البالغين المشخصين باضطراب طيف التوحد للمرة الأولى يكونون قد تلقوا سابقًا تشخيصات خاطئة، أو تم تجاهل صعوباتهم بسبب قدرتهم الظاهرة على التأقلم. في هذا السياق، يبرز تحدٍّ سريري مهم يتمثل في التمييز بين اضطراب طيف التوحد والتأخر العقلي (Intellectual Disability)، إذ يشترك الاضطرابان في بعض السمات، لكنهما يختلفان جذريًا في الأسباب والخصائص والمعالجة.

اضطراب طيف التوحد لدى الأفراد البالغين
يتضمن اضطراب طيف التوحد مجموعة متنوعة الأعراض، تمتد من اضطرابات في التواصل والتفاعل الاجتماعي، إلى سلوكيات نمطية واهتمامات ضيقة. إلا أن هذه الأعراض قد تتخذ شكلًا مختلفًا في مرحلة البلوغ؛ فقد لا يظهر ال أفراد سلوكيات نمطية واضحة أو تأخرًا واضحًا في اللغة، بل قد يعانون من صعوبات دقيقة في فهم الإشارات الاجتماعية أو التعبير عن مشاعرهم أو التفاعل بمرونة في مواقف الحياة اليومية. بعض الأفراد البالغين المشخّصين حديثًا يظهرون قدرات معرفية عالية، بل ويشغلون وظائف مرموقة، إلا أنهم يعانون داخليًا من شعور دائم بالغربة، أو اضطرابات القلق والاكتئاب، أو علاقاتهم الاجتماعية متوترة بسبب افتقارهم للبديهيات الاجتماعية.

تشخيص الأفراد البالغين: صعوبات ومنهجيات
تشخيص اضطراب طيف التوحد في مرحلة البلوغ يشكل تحديًا مركبًا، لا سيما عند تقييم الأفراد المشخّصين بهذا الاضطراب، نظرًا لتداخل الأعراض مع اضطرابات أخرى مثل اضطراب الشخصية الحدّية، واضطراب القلق الاجتماعي، واضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه. إضافةً إلى ذلك، فإن معايير التشخيص في دليل DSM-5 تعتمد بدرجة كبيرة على المظاهر المبكرة للاضطراب، ما يتطلب مراجعة دقيقة للتاريخ النمائي للأفراد، وهو أمر يصعب تحقيقه أحيانًا في غياب تقارير من الطفولة أو ضعف ذاكرة الأهل. لذا يُوصى باستخدام أدوات تقييم متخصصة للأفراد البالغين، مثل مقياس ADOS-2 (النموذج الخاص بالراشدين) ومقابلة التاريخ التطوري (ADI-R)، إلى جانب المقابلات السريرية و الملاحظات السلوكية المعمقة.

الفرق بين اضطراب طيف التوحد والتأخر العقلي
رغم وجود بعض أوجه التشابه بين اضطراب طيف التوحد والتأخر العقلي، مثل الصعوبات الاجتماعية أو ضعف الأداء التكيفي، إلا أن هناك فوارق جوهرية بين الاضطرابين:

  1. القدرات المعرفية: في التأخر العقلي، تكون جميع القدرات المعرفية منخفضة بشكل عام، بما فيها الذكاء، واللغة، والذاكرة. أما في اضطراب طيف التوحد ، فقد تكون القدرات المعرفية متفاوتة؛ فبعض المشخّصين يتمتعون بمعدل ذكاء متوسط أو فوق المتوسط، وقد يُظهرون قدرات استثنائية في مجالات محددة (مثل الرياضيات أو الذاكرة البصرية)، مع وجود صعوبات في الجوانب الاجتماعية.

  2. البنية اللغوية والتواصل: الأطفال والبالغون ذوو التأخر العقلي قد يُظهرون تأخرًا لغويًا عامًا، مع ضعف في الفهم والإنتاج. أما في اضطراب طيف التوحد، فقد يكون هناك استخدام لغوي جيد من حيث النحو والمفردات، لكن يعاني الأفراد من صعوبة في التواصل الاجتماعي، مثل فهم النبرة أو الإيماءة أو التلميحات.

  3. الاهتمامات والسلوكيات: ال أفراد المشخّصين باضطراب طيف التوحد غالبًا ما يظهرون اهتمامات مقيدة أو سلوكيات نمطية، كالتكرار أو الانشغال بمواضيع ضيقة جدًا. هذا لا يُعد سمة مميزة في التأخر العقلي.

  4. نمط النمو: التأخر العقلي عادة ما يُلاحظ منذ السنوات الأولى عبر تأخر شامل في المهارات النمائية. أما اضطراب طيف التوحد، فقد يكون نمط النمو طبيعيًا في البداية، قبل أن تبدأ السمات بالظهور لاحقًا، أو قد يظهر “انحدار نمائي” بعد عمر السنة والنصف أو السنتين.
     

الآثار النفسية لتأخر التشخيص
تأخر تشخيص الأفراد البالغين باضطراب طيف التوحد يترك أثرًا نفسيًا عميقًا. فالكثير منهم يكون قد عانى من عزلة، أو التنمّر، أو ضعف الثقة بالنفس، دون تفسير واضح لسلوكياتهم أو اختلافهم. التشخيص المتأخر غالبًا ما يكون تجربة تحررية، تُمكّن الأفراد من إعادة فهم حياتهم وتفسير تجاربهم الماضية. إلا أن هذا التشخيص قد يرافقه أيضًا مشاعر الحزن أو الغضب بسبب سنوات من الفهم الخاطئ أو الإهمال العلاجي.

الاحتياجات النمائية والنفسية لدى الأفراد البالغين المشخّصين باضطراب طيف التوحد
الأفراد المشخّصين باضطراب طيف التوحد يحتاجون إلى دعم متعدد الأبعاد، لا يقتصر على التشخيص فقط. فالمرافقة النفسية المتخصصة في فهم اضطراب طيف التوحد، إلى جانب التوجيه المهني والاجتماعي، تُعد عناصر محورية في تعزيز جودة حياتهم. برامج التدريب على المهارات الاجتماعية، والعلاج المعرفي السلوكي، والدعم في بيئة العمل، كلّها ضرورية لضمان تكيفهم وتفجير إمكاناتهم الكامنة. كذلك، لا بد من زيادة وعي المجتمع والأسر حول  اضطراب طيف التوحد لدى  الأفراد البالغين، وتجاوز الصورة النمطية التي تربط اضطراب طيف التوحد بالعجز الشامل.

خاتمة
يمثل تشخيص اضطراب طيف التوحد في مرحلة البلوغ خطوة مفصلية في حياة الكثيرين، إذ يفتح بابًا لفهم الذات وبناء مسار جديد أكثر توافقًا مع الاحتياجات الحقيقية للأفراد. ورغم الصعوبات التي تعترض هذا التشخيص، إلا أن التقدم في أدوات التقييم والوعي المجتمعي يسهمان في ردم الفجوة بين الطفولة والبلوغ. أما التمييز بين اضطراب طيف التوحد والتأخر العقلي، فهو أمر بالغ الأهمية، ليس فقط لضمان التشخيص الدقيق، بل أيضًا لوضع استراتيجيات دعم مناسبة لكل حالة على حدة. في النهاية، فإن فهم اضطراب طيف التوحد بوصفه طيفًا متنوعًا يتجاوز الأعمار والمستويات، هو ما يُمكّننا من بناء مجتمع أكثر شمولًا وإنصافًا.




المراجع

American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (5th ed.). https://doi.org/10.1176/appi.books.9780890425596

 

Brugha, T. S., McManus, S., Bankart, J., Scott, F., Purdon, S., Smith, J., … & Meltzer, H. (2011). Epidemiology of autism spectrum disorders in adults in the community in England. Archives of General Psychiatry, 68(5), 459–465. https://doi.org/10.1001/archgenpsychiatry.2011.38

 

Happé, F., & Frith, U. (2020). Annual Research Review: Looking back to look forward–changes in the concept of autism and implications for future research. Journal of Child Psychology and Psychiatry, 61(3), 218–232. https://doi.org/10.1111/jcpp.13176

 

Lai, M. C., Lombardo, M. V., & Baron-Cohen, S. (2014). Autism. The Lancet, 383(9920), 896–910. https://doi.org/10.1016/S0140-6736(13)61539-1

Lord, C., Rutter, M., DiLavore, P. C., Risi, S., Gotham, K., & Bishop, S. (2012). Autism Diagnostic Observation Schedule: ADOS-2. Western Psychological Services.

Matson, J. L., & Shoemaker, M. (2009). Intellectual disability and its relationship to autism spectrum disorders. Research in Developmental Disabilities, 30(6), 1107–1114. https://doi.org/10.1016/j.ridd.2009.06.003