ترجمة : أ. نوره الدوسري
القلق الشديد من حدوث أمر سيئ للوالدين عند الابتعاد عنهم
يُعتبر تشبّث الأطفال الصغار بوالديهم عند مغادرتهم للعمل، أو بكاؤهم عندما يُسلّمون إلى الجليسة أمرًا شائعًا. ورغم أن مشاعرهم تلك تُؤلمنا، فإننا نعلم أن غالبية هؤلاء الأطفال سيتجاوزون مخاوفهم وقلقهم من الانفصال عن الوالدين مع تقدمهم في السن واكتسابهم مزيدًا من الثقة بقدراتهم.
لكن بالنسبة لبعض الأطفال، يستمر القلق ويتفاقم خلال سنوات الدراسة بدلاً من أن يتلاشى. فهؤلاء الأطفال يُطوّرون ما يُعرف بـ”اضطراب قلق الانفصال”، ويكون القلق لديهم بشأن الابتعاد عن الوالدين أو مقدمي الرعاية مفرطًا للغاية، ويتعدى لحظة الانفصال نفسها ليشمل تخيلات ومخاوف مقلقة.
على سبيل المثال، قد يجد الطفل المصاب بقلق الانفصال صعوبة في التركيز داخل الفصل لأنه يشعر بالقلق من أن يتعرض والديه لحادث سير. وقد يقلق بشأن إصابة أحد أفراد العائلة بأذى، أو تعرضه هو نفسه للأذى، أو حتى احتمال أن يتم التخلي عنه. وإذا تأخر أحد الوالدين خمس دقائق فقط في استلامه من تدريب كرة القدم، فقد يفترض الطفل أن العائلة قد غادرت المدينة وتركته.
مكالمات ورسائل قلقة
قد لا تُخفف التكنولوجيا الحديثة، مثل الهواتف المحمولة، من حدة القلق، بل على العكس قد تُفاقمه، نظرًا لتوقع إمكانية التواصل في أي لحظة. فكثير من أولياء الأمور الذين لديهم أطفال يعانون من اضطراب قلق الانفصال معتادون على تلقي عشرات الرسائل النصية والمكالمات الهاتفية القلقة طوال اليوم أثناء وجودهم في العمل أو أثناء وجود الطفل في المدرسة. وبعض الأطفال يبدأون في الذعر بمجرد أن لا يُجيب أحد الوالدين على الهاتف، أو في حال كان خارج نطاق التغطية.
ويُعد قلق الانفصال بحد ذاته أمرًا طبيعيًا في مراحل معينة من النمو، ولا يُعتبر دائمًا شيئًا سلبيًا. فرغم أنه يسبب شعورًا بعدم الارتياح، إلا أن القلق يمكن أن يكون مفيدًا، لأنه يدفعنا إلى الحذر والتفكير بشكل أعمق عند مواجهة مواقف جديدة.
وكما يوضح الدكتور رون ستينغارد، طبيب نفسي للأطفال والمراهقين:
“في مراحل مختلفة من التطور، من الطبيعي أن يواجه الأطفال صعوبات في الانفصال، لأن العالم ليس آمنًا، ولأنهم لم يتعلموا بعد كيف يواجهون الابتعاد عن مقدمي الرعاية. ومع التقدم في السن، واكتساب المهارات والخبرات، ينبغي أن يصبح الأمر أسهل.”
فقدان الأنشطة بسبب القلق
لكن بالنسبة للأطفال الذين يعانون من اضطراب قلق الانفصال الشديد والمستمر، فإن الأمر لا يتحسن بمرور الوقت. هؤلاء الأطفال يواجهون صعوبة غير عادية في قول “وداعًا” — وتفكر إحدى الأمهات في ترك وظيفتها بسبب نوبات الهلع التي تُصيب ابنتها في كل مرة تذهب فيها إلى العمل — لكن القلق لا يتوقف عند لحظة المغادرة.
فالضيق الشديد الذي يشعرون به نتيجة الانفصال يمنعهم من المشاركة في أنشطة مناسبة لأعمارهم، ويُفوت عليهم فرصًا تعليمية، مثل الانضمام إلى الفرق الرياضية أو حتى الذهاب إلى المدرسة في بعض الحالات. ويؤثر القلق كذلك على الحياة الاجتماعية — فهؤلاء هم الأطفال في سن التاسعة الذين لا يزالون بحاجة إلى وجود الوالدين بجانبهم خلال حفلات عيد الميلاد، أو يرفضون المبيت خارج المنزل إلا إذا كان في منزلهم الخاص.
وقد يظهر التعلّق المفرط داخل المنزل أيضًا، حيث يتبع الطفل أحد الوالدين من غرفة إلى أخرى. ويخاف بعض الأطفال من البقاء بمفردهم في الطابق العلوي أو النوم بمفردهم في السرير. ويُخبرنا بعض الوالدين عن أطفال يصرّون على النوم في سرير الوالدين كل ليلة، أو يستيقظون في الخامسة أو السادسة صباحًا كل يوم ويزحفون إلى فراشهم مثل “ساعة منبّه بشرية”.
القلق حتى من مجرد التفكير في الانفصال
عادة ما يشعر الأطفال الأصغر سنًا بالقلق لحظة الانفصال، لكن الأطفال الأكبر سنًا قد يعانون من “القلق التوقعي”، أي أنهم يشعرون بالقلق فقط من التفكير في الانفصال، حتى قبل حدوثه.
ويقول الدكتور كلارك غولدستين، الأخصائي النفسي السريري، إن بعض الأطفال الذين يُعالجهم من اضطراب قلق الانفصال يصابون بقلق أكبر عند التفكير في الانفصال مقارنةً بما يشعرون به أثناء حدوثه الفعلي. وقد تراودهم كوابيس متكررة عن الانفصال. وبغض النظر عن نوع القلق، سواء كان توقعيًا أو لحظيًا، فإن كثيرًا من الأطفال يشعرون بأعراض جسدية، مثل الصداع أو آلام المعدة.
ويشير الدكتور ستينغارد إلى أنه إذا اعتبرنا القلق نظام إنذار يعمل عند الشعور بالخطر، فإن الأطفال المصابين باضطراب قلق الانفصال لديهم نظام إنذار معطوب.
يقول:
“بعضهم لديه نظام إنذار يعمل طوال الوقت، فلا يشعرون بالراحة في المخاطرة أو الاستقلال. وبعضهم لديه نظام إنذار يشتغل فجأة ويُصيبهم باضطراب شديد. وفي الحالتين، يعتمدون على وجود شخص يحميهم — غالبًا أحد الوالدين. ويظنون: هذا الشخص يوفر لي الأمان، لذا يجب أن أبقى بجانبه. أو: هذا المكان يُشعرني بالأمان، لذا يجب أن أظل فيه.”
الحصول على المساعدة الفعّالة
إذا كانت هذه الأعراض مألوفة، ولاحظتم أنها مستمرة بمرور الوقت، فمن الجيد التحدث إلى طبيب الأطفال أو استشارة أخصائي. فكلما طالت مدة معاناة الطفل من القلق، أصبح العلاج أكثر صعوبة. لكن الخبر السار هو أن معظم الأطفال يستجيبون للعلاج بشكل جيد، خاصة إذا بدأ في وقت مبكر.
عادة ما يتضمن علاج اضطراب قلق الانفصال “العلاج المعرفي السلوكي”، وهو نهج علاجي يساعد الأطفال على تعلم كيفية التحكم في مخاوفهم. وقد يشمل ذلك “العلاج بالتعرض”، وهو أسلوب علاجي يُعرّض الأطفال تدريجيًا للانفصال بجرعات صغيرة ومضبوطة، مما يقلل القلق تدريجيًا مع مرور الوقت. كما قد يستخدم الأطباء تدريبًا على الاسترخاء وجملًا تحفيزية لتشجيع التفكير الإيجابي والمنطقي. وفي بعض الحالات الأكثر صعوبة، قد يتم وصف الأدوية لتخفيف القلق وتعزيز فعالية العلاج النفسي.
تدريب الوالدين جزء من خطة العلاج
أحد المكونات المهمة في علاج اضطراب قلق الانفصال هو تدريب الوالدين. فالوالدان المتعاطفان، الذين يرغبون في تخفيف قلق أطفالهم، قد يُعزّزون القلق دون قصد.
يقول الدكتور جيري بوبريك، الأخصائي النفسي الذي عالج العديد من الأطفال في معهد تشايلد مايند:
“غالبًا ما يتردد الوالدان في الانفصال عن الطفل لأنهما يعلمان أنه يشعر بالقلق، لكن هذا التردد يعزز الخوف بدلاً من دعم جهود الانفصال.”
ويمكن للوالدين المساعدة من خلال تقديم تعزيز إيجابي كلما أكمل الطفل أحد أهدافه. ويقوم بعض الأطباء بتعليم الوالدين تقديم “نقاط” للطفل، يمكن تحويلها إلى مكافآت صغيرة، مقابل كل هدف يُحققه.
إن علاج اضطراب قلق الانفصال يساعد الأطفال على العودة إلى طبيعتهم، وهي الانشغال بعملية التعلم. فكلما طال أمد معاناتهم مع القلق، زادت فرصهم في تفويت فرص تعليمية مهمة. وكلما اعتمدوا على تجنّب الانفصال، زاد خطر تطور سمات الشخصية التجنّبية أو الإصابة باضطرابات القلق أو المزاج.
القلق يعيق التعلم
يقول الدكتور ستينغارد:
“إذا لم يُعالج الطفل، فقد يُصبح شخصًا شديد التحفّظ ويتجنّب المخاطر، وهذا أمر سلبي في مرحلة الطفولة، لأن الطفولة مليئة بالمغامرات والتجارب الجديدة.”
ويضيف:
“الطفل في هذه المرحلة يمر بعملية توسّع. فكل شيء من حوله جديد، والتعرّض للأمور الجديدة يثير القلق بطبيعته. لكن معظمنا يتعلّم كيف يُسيطر على هذا القلق، ويطوّر مهارات تمكّنه من خوض تجارب جديدة والتعامل مع الناس.”
ويختم بقوله:
“علينا مساعدة هؤلاء الأطفال في اللحاق بتطورهم، واكتساب المهارات اللازمة، حتى يتمكّنوا من الوقوف على أقدامهم بثقة.”
المرجع:
What Is Separation Anxiety? :





