ترجمة: أ. نوره الدوسري
يتعلم الناس لغة جديدة لأسباب متنوعة، سواء للعمل، الدراسة في الخارج، الانتقال للعيش في بلد آخر، أو ببساطة من أجل المتعة. وبغض النظر عن الدافع، يجد الكثير من الأشخاص أن تجربة دراسة لغة جديدة تُثري حياتهم بشكل كبير. ولكن، هل كنت تعلم أن تعلم لغة جديدة لا يقتصر على اكتساب كلمات وقواعد جديدة فحسب، بل يُحدث تغييرات فعلية في دماغك على مستوى الفيزيولوجيا العصبية؟
أظهرت العديد من الدراسات أن تعلم لغة ثانية في أعمار مختلفة يُحدث تأثيرات ملحوظة على عمل الدماغ وبنيته. هذه التغييرات العصبية يمكن أن تحسن الوظائف العقلية والمعرفية، وتزيد من مرونة الدماغ وقدرته على التكيف مع متطلبات الحياة المختلفة. فيما يلي نستعرض كيف يؤثر تعلم لغة جديدة على الدماغ، وما الفوائد التي يمكن أن تجنيها من هذه العملية.
منظور عصبي حول تعلم اللغة
درس العلماء الأشخاص ثنائيي اللغة، أي الذين تعلموا لغتين جنبًا إلى جنب منذ الطفولة المبكرة، لفهم تأثير التحدث بطلاقة بلغتين على المستوى المعرفي والعقلي. ومع ظهور تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، أصبح بالإمكان رؤية الفروق بين أدمغة متحدثي لغة واحدة وأدمغة متحدثي لغتين بشكل واضح وملموس.
يتكوّن دماغ كل شخص من الخلايا العصبية (Neurons)، التي تحتوي على جسم الخلية، والتغصّلات العصبية (Dendrites) التي تشكل وصلات بين الخلايا العصبية. هذه الشبكة العصبية تعرف باسم المادة الرمادية (Grey Matter)، وهي المسؤولة عن معالجة المعلومات واتخاذ القرارات والتعلم.
أظهرت الدراسات أن الأشخاص ثنائيي اللغة لديهم كمية أكبر من الخلايا العصبية والتغصّلات العصبية مقارنة بأحاديي اللغة، ما يجعل المادة الرمادية لديهم أكثر كثافة.
كما يؤثر التحدث بلغتين على المادة البيضاء (White Matter)، وهي شبكة من الألياف العصبية التي تربط جميع فصوص الدماغ الأربعة، وتنسق التواصل بين المناطق المختلفة، مما يسهل تعلم المعلومات الجديدة ووظائف الدماغ. البالغون ثنائيو اللغة لديهم سلامة أكبر في المادة البيضاء، مما يعزز قدرة دماغهم على التكيف مع المهام المعقدة ويزيد من احتياطي الدماغ العصبي، أي قدرة الدماغ على مقاومة الشيخوخة أو الأمراض العصبية.
تعلم اللغة في مراحل لاحقة من العمر
حتى الأشخاص الذين يبدأون تعلم لغة جديدة في مرحلة البلوغ أو ما بعدها يمكنهم الاستفادة من فوائد التعلم العصبي. فالتعرض لتجارب جديدة يساهم في تكوين وصلات عصبية جديدة وتقوية الروابط بين الخلايا العصبية. هذه الروابط تُحافظ عليها الممارسة المستمرة، مما يجعل الدماغ أكثر مرونة وقدرة على التعلم.
دراسة اللغة الجديدة تجمع بين الحداثة والممارسة العملية. فعلى سبيل المثال، يتعلم الطلاب كلمات وقواعد جديدة، ويستعرضون ما تعلموه سابقًا، ويبنون عليه. هذه العملية تعمل كتمرين مكثف للدماغ، وتحمي المتعلمين الأكبر سنًا من مخاطر الزهايمر والأمراض العصبية التنكسية.
وبشكل عام، يُعد تعلم اللغة الجديدة واحدًا من أكثر النشاطات العقلية تعقيدًا، ما يجعله وسيلة قوية لتحفيز الدماغ والحفاظ على صحته.
كيف يعزز تعلم اللغة مهارات أخرى
التغيرات العصبية التي تحدث نتيجة تعلم اللغة عادةً ما تصاحبها تحسينات في مهارات أخرى مثل: التواصل، التفكير الإبداعي، الذاكرة، والتركيز.
1. تحسين الأداء الأكاديمي
أظهرت مراجعة شاملة لـ20 دراسة أن معظم الطلاب الذين يتعلمون لغة ثانية (حوالي 90%) أظهروا أداء أفضل في مجموعة متنوعة من المواد الدراسية مقارنة بأقرانهم أحاديي اللغة. كما يحسن تعلم لغة أخرى مهارات القراءة والكتابة، ما يمنح المتعلمين ميزة إضافية في المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم.
2. تعزيز التركيز والانتباه
حتى بعد أسبوع واحد فقط من دراسة لغة جديدة، لوحظ تحسن في مستوى الانتباه والتركيز لدى الطلاب. واستمر هذا التحسن مع الالتزام بالدراسة لمدة خمسة ساعات أسبوعيًا على الأقل. الدراسة شملت متعلمين تتراوح أعمارهم بين 18 و78 عامًا، وأظهرت أن تحسن التركيز يحدث في جميع الفئات العمرية، مما يعني أن تعلم لغة جديدة يعزز الانتباه بغض النظر عن العمر.
3. تقوية الذاكرة
تعلم اللغة يدمج بين مهارات الحفظ (مثل كلمات وقواعد جديدة) والاسترجاع (إنتاج اللغة في الأنشطة الصفية). لذلك، يتمتع الأشخاص الذين يستخدمون لغة ثانية بانتظام بذاكرة أقوى مقارنة بأحاديي اللغة. وتشير الأبحاث إلى أن تعلم لغة ثانية يحسن الذاكرة قصيرة وطويلة المدى، سواء تعلم المتعلم اللغة في الطفولة أو في مرحلة البلوغ.
4. تحسين مهارات التواصل
أظهرت الدراسات المبكرة أن تعلم اللغة الثانية يعزز التعاطف والقدرة على فهم الآخرين. فالقدرة على التفكير من منظور مختلف تساعد على تحسين مهارات التواصل اليومية، بما في ذلك الإنصات الفعال وفهم المشاعر المختلفة.
5. زيادة الإبداع
أثبتت الدراسات أن الأطفال ثنائيي اللغة يظهرون مرونة أكبر وحلولًا أكثر ابتكارًا للمشكلات مقارنة بأقرانهم أحاديي اللغة، وينطبق الشيء نفسه على المتعلمين الكبار. إذ أن التفكير باللغة الجديدة، والتحويل بين اللغات، والدراسة المنظمة، يعزز القدرة على التفكير الإبداعي وحل المشكلات بطرق مبتكرة.
تأثير تعلم اللغة على الحياة اليومية
تعلّم لغة جديدة لا يُحسّن مهاراتك العقلية فقط، بل يساعدك أيضًا على اتخاذ قرارات أفضل، وحل المشكلات بفعالية، والتواصل بذكاء مع الآخرين، كما يعزز العلاقات الاجتماعية والمهنية.
كل مرة تتحدث فيها لغة ثانية، فأنت تمارس دماغك، تبني مهارات معرفية جديدة، وتزيد من احتياطات الدماغ العصبي.
الخلاصة
تعلم لغة جديدة له فوائد لا تُحصى على الدماغ والحياة اليومية. فهو يعزز الصحة العقلية، يقوي الذاكرة، يحسّن التركيز والانتباه، ويزيد من الإبداع والتفكير النقدي. بالإضافة إلى ذلك، يساهم تعلم اللغة في تحسين مهارات التواصل وبناء علاقات أفضل على المستوى الشخصي والمهني.
سواء كنت متعلمًا للغات أو مدرسًا لها، فأنت من خلال ممارسة لغة ثانية كل يوم، تقوم بتقوية دماغك وبناء مهاراتك المعرفية، وتُحسّن حياتك على مستويات متعددة. تعلم لغة جديدة ليس مجرد اكتساب كلمات جديدة، بل هو تمرين مستمر للعقل يساعدك على النمو الشخصي والاجتماعي والمهني.
المرجع :
How learning a new language changes your brain :
https://www.cambridge.org/elt/blog/2022/04/29/learning-language-changes-your-brain/





