الأبعاد السبعة لخدمات تحليل السلوك التطبيقي

تهدئة العقل: التغلّب على الانصهار المعرفي وتدفّق الأفكار المتسارعة ليلاً

 

ترجمة : أ نوره الدوسري

مقدمة:
مررنا جميعًا بتلك الليالي التي تركض فيها أفكارنا بلا توقف، فنشعر وكأن عقولنا تعمل بسرعة هائلة تمنعنا من الاستغراق في نوم هادئ. تدور الأفكار بلا انقطاع، فتتنقل بين قوائم المهام البسيطة إلى المخاوف الوجودية العميقة، مما يجعل النوم يبدو بعيدًا وصعب المنال. هذا المشهد المألوف يتركنا في اليوم التالي مرهقين ومشتتين. وفي جوهر هذه المشكلة يقع مفهوم نفسي مهم يُعرف باسم الانصهار المعرفي، وهو عملية ذهنية تزيد من الاجترار الليلي وتسرق منا الراحة التي يحتاجها الجسم والعقل لاستعادة توازنهما.

 

فهم الانصهار المعرفي

يشير الانصهار المعرفي إلى حالة يصبح فيها الفرد ملتصقًا للغاية بأفكاره، إلى درجة تجعله يتعامل معها باعتبارها حقائق مؤكدة لا جدال فيها. عندما ننصهر مع أفكارنا، فإننا نسمح لها بأن تتحكم في مشاعرنا وسلوكياتنا وكيف نفهم واقعنا. يصبح العقل وكأنه يذيبنا داخل أفكارنا، فلا نعود قادرين على رؤية أنفسنا منفصلين عنها.

في هذه الحالة، لا نرى الأفكار بوصفها أحداثًا ذهنية، بل كحقائق يجب الانصياع لها. فنبدأ بتصديق أسوأ مخاوفنا، ونفترض أن أسوأ السيناريوهات حتمية الوقوع. ومع مرور الوقت، يقودنا هذا الانصهار إلى دائرة من القلق والاجترار والشعور بالضيق.

يزداد الانصهار المعرفي خطورة خلال الليل. ففي النهار، تساعدنا المشتتات والمهام المختلفة على إبعاد أذهاننا عن التفكير الزائد. لكن خلال الليل، حين يسود الهدوء وتختفي مصادر الإلهاء، تصبح الساحة مفتوحة تمامًا للأفكار المقلقة لتطفو على السطح وتحتل مساحتنا الذهنية. وهنا يصبح النوم مهمة صعبة، وقد يتحول السرير إلى مكان للصراع العقلي بدلًا من الراحة.

 

التعرف على الانصهار المعرفي في حياتك

يحدد الباحث روس هاريس (2009) ستة مجالات أساسية يظهر فيها الانصهار المعرفي بشكل واضح. يساعدنا فهم هذه المجالات على التعرف إلى الأنماط التي تجعل أفكارنا أكثر سيطرة، خاصة خلال الليل.

 

1. القواعد الداخلية الصارمة

نعيش جميعًا وفق مجموعة من القواعد الداخلية غير المكتوبة، التي تحدد ما ينبغي علينا فعله أو التفكير فيه. هذه القواعد تنشأ غالبًا من تجارب سابقة أو من توقعات اجتماعية. لكن خلال الليل، تتحول هذه القواعد إلى ضغوط نفسية.

مثال:

  • «إذا لم أنم فورًا، فسيتدمر يومي بالكامل.»
  • «إذا شعرت بالقلق فهذا يعني أنني لن أنام.»

هذه القواعد تؤدي إلى مزيد من التوتر، وتجعل النوم يبدو مهمة مستحيلة.

2. الأسباب والمبررات

يميل العقل إلى اختراع أسباب يبرر بها عدم قدرته على النوم. ورغم أن هذه الأسباب تبدو منطقية، إلا أنها غالبًا غير دقيقة وتعكس نمطًا من الانصهار مع الأفكار، لا مع الواقع.

طريقة فعالة للتعامل معها هي النظر إلى الأفكار بوصفها فرضيات تحتاج إلى اختبار، وليست حقائق.

مثال:

  • «لا أستطيع النوم لأنني متوتر جدًا.»
  • «لطالما كنت سيئًا في النوم، إذن الليلة ستكون مثل كل الليالي.»

التحرر من هذه المبررات يساعد على تهدئة العقل.

 

3. الأحكام الذاتية

العقل بطبيعته يُصدر أحكامًا مستمرة، وغالبًا ما تكون قاسية. والليل هو الوقت الذي تزداد فيه هذه الأحكام شراسة.

مثال:

  • «أنا فاشل في النوم.»
  • «قلقي خارج السيطرة.»

هذه الأحكام تزيد من التوتر وتُبقي الجسم في حالة يقظة.



4. التعلّق بالماضي

قد يجد العقل نفسه ليلاً يعيد تشغيل أحداث قديمة أو مواقف محرجة أو مؤلمة، مما يعيد فتح جروح نفسية.

مثال:

  • «لماذا قلت ذلك الكلام المزعج الأسبوع الماضي؟»
  • «كانت حياتي أفضل بكثير قبل أن يحدث هذا الأمر.»

التمسك بالماضي يستهلك طاقة نفسية تمنع الاسترخاء.

 

5. القلق بشأن المستقبل

الخوف من المستقبل مصدر أساسي للانصهار المعرفي. خلال الليل، ومع غياب الضوضاء والانشغال، يصبح المستقبل أكثر تهديدًا في خيالنا.

مثال:

  • «ماذا لو فشلت غدًا؟»
  • «ماذا لو حدث شيء سيء؟»

هذه السيناريوهات تتغذى على الصمت الليلي وتصبح أكثر إقناعًا.




6. صورة الذات

قد ينصهر الفرد مع أفكار سلبية عن ذاته، مما يقوّي الشعور بعدم الكفاءة أو الخوف أو العجز، خصوصًا في نهاية اليوم.

مثال:

  • «أنا لست جيدًا بما يكفي.»
  • «أنا دائمًا قلق ولن أتغير.»

هذه الأفكار تُضعف الثقة بالنفس وتزيد صعوبة النوم.

 

استراتيجيات لتهدئة العقل والتغلب على الانصهار المعرفي

رغم أن الانصهار المعرفي يبدو قويًا، إلا أن هناك تقنيات فعّالة تساعد على استعادة السيطرة.

 

1. اليقظة الذهنية والقبول

تهدف اليقظة الذهنية إلى توجيه الانتباه إلى اللحظة الحالية، دون إطلاق أحكام على الأفكار. يساعد هذا الأسلوب على رؤية الأفكار كما هي: مجرد أحداث عقلية عابرة.

يمكن تحقيق ذلك من خلال:

  • التنفس العميق
  • التأمل
  • ملاحظة الأفكار دون التفاعل معها

فبدلًا من مطاردة الأفكار أو مقاومتها، نتعلم السماح لها بالمرور دون تأثير كبير.

 

2. تقنيات فك الانصهار المعرفي

وهي تقنيات تساعد على خلق مسافة بين الشخص وأفكاره، بحيث يرى الفكر كشيء منفصل عنه.

من هذه التقنيات:

  • وضع اسم للفكرة: مثل «هذه مجرد فكرة تقلق بشأن الغد».
  • القول: “أنا ألاحظ أن لدي فكرة تقول…”
  • تكرار الكلمة المرتبطة بالفكرة حتى تفقد معناها
  • تخيل الفكرة على شكل ورقة طافية فوق ماء جاري

هذه الاستراتيجيات تقلل من سيطرة الأفكار وتجعلها أقل رعبًا.

 

3. تخصيص وقت للقلق

بدلًا من السماح للقلق بالانتشار ليلاً، يمكن تخصيص وقت محدد خلال النهار لمناقشة المخاوف. بعد انتهاء الوقت، نلتزم بإعادة الانتباه إلى نشاط آخر.

عندما تدخل الأفكار القلقة ليلاً، يمكن تذكير النفس بلطف:
«هذا ليس وقت القلق، سأفكر في هذا الأمر غدًا.»



4. عادات نوم صحية (نظافة النوم)

تساعد ممارسات النوم الصحية على خلق بيئة مريحة، منها:

  • النوم والاستيقاظ في نفس الوقت يوميًا
  • تجنّب الكافيين والشاشات قبل النوم
  • إنشاء روتين يساعد على الاسترخاء
  • تجنب النقاشات الصعبة في الليل
  • ممارسة الرياضة في وقت مبكر من اليوم
  • إنهاء المهام الذهنية قبل وقت كافٍ من النوم

هذه العادات تهيئ الجسم والعقل لراحة أعمق.

 

5. الدعم النفسي المتخصص

إذا استمر الانصهار المعرفي وتدفّق الأفكار المتسارعة وأثّرت بشكل واضح على جودة حياتك، فقد يكون من المفيد طلب المساعدة من متخصص نفسي.
العلاج السلوكي المعرفي (CBT) وعلاج القبول والالتزام (ACT) كلاهما فعال في معالجة الانصهار المعرفي والأرق الناتج عنه.

 

الخاتمة

يمكن أن يكون الانصهار المعرفي وتدفّق الأفكار المتسارعة ليلاً تجربة مرهقة تسلبنا النوم الذي نحتاج إليه لاستعادة صحتنا. لكن فهم طبيعة الانصهار المعرفي واستخدام استراتيجيات اليقظة وفك الانصهار وعادات النوم الصحيّة يمكن أن يعيد الهدوء إلى العقل. تذكّر أن الأفكار ليست حقائق مطلقة، وأنك قادر على خلق مسافة بينها وبين نفسك. ومع الممارسة، ستصبح أكثر قدرة على التعامل مع الأفكار الليلية، وتثق أكثر بقدرتك على تهدئة عقلك والعودة إلى النوم براحة وسلام.

 

المرجع : 

 

Quieting the Mind: Overcoming Cognitive Fusion and Intrusive Racing Thoughts at Night By Susan George:

https://ndpsych.com.au/quieting-the-mind-overcoming-cognitive-fusion-and-intrusive-racing-thoughts-at-night-by-susan-george/#:~:text=Cognitive%20fusion%20is%20a%20psychological,further%20fueling%20the%20racing%20thoughts.