ترجمة : أ. نوره الدوسري
الاحتراق النفسي مصطلح نسمعه كثيرًا، لكننا غالبًا لا ننتبه إلى ظهوره في حياتنا حتى يصل إلى مرحلة متقدمة. يمكن أن ينشأ الاحتراق النفسي من ضغوط العمل، المسؤوليات الشخصية، أو ببساطة تراكم التوقعات غير المحققة. في ثقافتنا الحديثة السريعة الإيقاع والموجهة نحو الأداء والإنجاز، نقارن أنفسنا باستمرار بمن يبدو أنهم متقدمون أكثر منا، مما يجعلنا نشعر بعدم الكفاءة. إلى جانب ذلك، غالبًا ما تتراكم المهام مع دعم محدود، ويصبح الحمل مرهقًا للغاية.
بصفتي طبيبًا نفسيًا، فقد شاهدت تأثير الاحتراق النفسي العميق على الصحة النفسية والعاطفية والجسدية، وقد مررت بتجربة ذلك بنفسي أيضًا. الخبر الجيد هو أن الاحتراق النفسي غالبًا ما يكون قابلًا للوقاية. على الرغم من وجود عوامل نظامية أو بيئية خارجة عن إرادتنا، إلا أن الكثير مما يؤدي إلى الاحتراق النفسي يقع ضمن قدرتنا على التأثير—من خلال الطريقة التي نرى بها التحديات، وكيفية استجابتنا للضغوط، وإدارة اختياراتنا.
خلال عملي كأول مدير طبي لبرنامج الصحة النفسية لمركز التجارة العالمي في جامعة نيويورك، تعلمت دروسًا مهمة حول تأثير الضغوط الشديدة على الأفراد خلال الكوارث الجماعية والهجمات الإرهابية. من أبرز ما تعلمته أن الضغوط المفرطة لها القدرة على تقليل شعورنا بالذات والسيطرة الشخصية. فهي تهز ثقتنا بأنفسنا، وتتركنا نشعر باليأس، وفي بعض الحالات تساهم في الاكتئاب. رغم أن ضغوط الحياة اليومية ليست مماثلة لتجربة أحداث تهدد الحياة، إلا أن كلا النوعين يمكن أن يقللا الدافع والقيمة الذاتية. إذا تُرك الاحتراق النفسي دون معالجة، فإنه يستنزف الطاقة ويترك الفرد في حالة من التعب العاطفي والذهني المستمر، وهو واقع شهدته مرارًا في عملي خلال العقدين الماضيين.
السر في الوقاية من الاحتراق النفسي هو التمسك بالشعور بالسيطرة الشخصية. في كتابي التفاؤل العملي، خصصت فصلًا كاملًا للكفاءة الذاتية والسيطرة، والتي أسميتها “الإجادة”. الإجادة تعني تحمل المسؤولية عن القرارات، وبناء علاقات ذات معنى، واتخاذ خطوات استباقية مثل البحث عن مرشدين أو قدوة. إن التعرف المبكر على علامات الاحتراق النفسي واتخاذ خطوات للحفاظ على التوازن يساعدنا على البقاء مسيطرين وحماية رفاهيتنا قبل أن يصل التعب إلى مرحلة متقدمة.
ما هو الاحتراق النفسي؟
الاحتراق النفسي ليس مجرد شعور بالتعب أو الضغط؛ إنه استنزاف عميق ومزمن للعقل والجسد والروح. غالبًا ما يؤدي إلى شعور بالعجز والانفصال، ويمكن أن يظهر بثلاثة أشكال رئيسية:
- الإرهاق: شعور مستمر بالإرهاق الجسدي والعاطفي.
- التشاؤم: الانفصال العاطفي عن العمل أو المسؤوليات، غالبًا مصحوبًا بأفكار سلبية تجاه الناس أو المهام. يمكن أن يؤدي هذا إلى التفكير المتشائم حيث تُرى التحديات على أنها دائمة وشاملة وشخصية. يصف عالم النفس مارتن هذه الظاهرة بثلاثة عناصر للتشاؤم، وقد أضفت عنصرًا رابعًا وهو السلبية السلبية أو التراخي.
- عدم الفعالية: شعور منخفض بالإنجاز والقيمة الذاتية. قد يشعر الفرد بأن جهوده بلا جدوى، مما يؤدي إلى الشك الذاتي والتركيز على الجوانب السلبية بدلاً من الحلول، وهو ما يخلق دورة تكرارية للانهيار النفسي.
رغم ارتباط الاحتراق النفسي غالبًا بالعمل، إلا أنه يمكن أن يحدث في أي مجال من الحياة من رعاية الآخرين إلى الضغوط الأكاديمية. المفتاح هو التعرف على علامات التحذير واتخاذ الإجراءات قبل أن يتعمق الاحتراق النفسي.
التعرف على علامات الاحتراق النفسي
الخطوة الأولى للوقاية هي الوعي. الاحتراق النفسي يتطور تدريجيًا، وبعض العلامات المبكرة تشمل:
- التعب المزمن: الاستيقاظ منهكًا رغم النوم الكافي.
- زيادة الانزعاج: الشعور بالإحباط من أمور بسيطة كما لو كانت كبيرة.
- فقدان الدافع: المهام التي كانت ممتعة سابقًا تصبح صعبة أو بلا معنى.
- الأعراض الجسدية: صداع، مشاكل هضمية، أو تغيرات في النوم والشهية.
- العزلة: الانسحاب من الأنشطة الاجتماعية والأصدقاء والعائلة.
ملاحظة أي من هذه العلامات تتطلب اهتمامًا فوريًا لاتخاذ خطوات لاستعادة التوازن.
الوقاية من الاحتراق النفسي: استراتيجيات عملية
الوقاية تتطلب خلق توازن مستدام في الحياة. فيما يلي بعض الاستراتيجيات العملية:
- وضع حدود
الحدود تحمي وقتك وطاقتك للأمور المهمة. حدد أولوياتك، وقل “لا” للمهام غير الضرورية، وفوض ما يمكن تفويضه. حدد أوقات عمل واضحة والتزم بها، وخصص وقتًا للاسترخاء والهوايات خارج العمل. الحدود تحافظ على الطاقة والتركيز. - اليقظة وإدارة التوتر
تمارين اليقظة تساعد في إدارة التوتر والحفاظ على التركيز. يمكن ممارسة التأمل أو اليوغا أو الجلوس بهدوء لمدة 5–10 دقائق يوميًا. تساعد تمارين استرخاء العضلات التدريجي والتدوين على تحرير التوتر ومعالجة المشاعر. - العناية بالنفس
العناية بالنفس تعني اتخاذ خطوات واعية لتعزيز الصحة الجسدية والعاطفية والنفسية. احرص على النوم 7–9 ساعات يوميًا مع الالتزام بمواعيد ثابتة. تناول وجبات متوازنة تحتوي على البروتين والألياف والدهون الصحية. النشاط البدني، حتى المشي لمدة 20 دقيقة، يقلل من هرمونات التوتر ويحسن المزاج. الحفاظ على التواصل الاجتماعي مهم أيضًا لتجنب العزلة التي تزيد الاحتراق النفسي. - إعادة صياغة المنظور
تغيير طريقة رؤية المسؤوليات يقلل من الاحتراق النفسي. اعتبر التحديات فرصًا للنمو. قسم المهام الكبيرة إلى خطوات أصغر واحتفل بالإنجازات الصغيرة. التركيز على الجوانب الإيجابية يعزز التحمل والدافعية. - طلب المساعدة
لا يجب مواجهة كل شيء بمفردك. اطلب الدعم من الأصدقاء أو العائلة أو المتخصصين النفسيين عند الحاجة. طلب المساعدة خطوة وقائية وليست علامة ضعف. - أخذ فترات راحة والانفصال عن العمل
الانشغال المستمر بالعمل ووسائل التواصل يجعلنا نشعر بأننا دائمًا “متصلون”. خصص أوقاتًا للراحة لإعادة الشحن. ابتعد عن مكتبك أثناء الغداء، امشِ قليلاً، وضع حدودًا للتحقق من البريد الإلكتروني بعد ساعات العمل. خطط لعطلات منتظمة لإعادة النشاط الذهني والجسدي. - ممارسة الهوايات والاهتمامات خارج العمل
امتلاك حياة خارج العمل أمر ضروري. شارك في هواياتك، النشاطات الإبداعية، أو التفاعل الاجتماعي الذي يمنحك سعادة وإشباعًا. الانغماس في الأنشطة التي تتطلب تركيزًا وتجلب المتعة، أو ما يعرف بـ”حالات التدفق”، يحمي من الاحتراق النفسي ويعزز التوازن العقلي. - البحث عن فرص للتألق
الشعور بالتقدير أمر أساسي للوقاية. ابحث عن طرق لإضافة قيمة في العمل أو المجتمع أو الحياة الشخصية. الاعتراف بمجهوداتك ومجهودات الآخرين يعزز التحفيز والطاقة والشعور بالهدف.
الخاتمة
الوقاية من الاحتراق النفسي لا تعني العمل أكثر، بل العمل بذكاء ووعي. وضع الحدود، ممارسة العناية بالنفس، طلب الدعم، وممارسة الهوايات، كلها عوامل مهمة للحفاظ على الطاقة والرفاهية. الاحتراق النفسي يتطور تدريجيًا، لكن بالوعي والاستراتيجيات المناسبة يمكن تفاديه. العناية بالصحة النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة أساسية. عند إعطاء الأولوية لصحتنا، نتمكن من العطاء بأفضل شكل في جميع جوانب حياتنا.
المرجع
Preventing Burnout: A Guide to Protecting Your Well-Being:
http://psychiatry.org/news-room/apa-blogs/preventing-burnout-protecting-your-well-being





