ترجمة: أ. سما خالد
المقدمة
في السنوات الأولى من حياة الأطفال، تتطور قدراتهم المعرفية والاجتماعية من خلال تفاعلهم مع بيئتهم الحسية، وعلى رأس هذه الحواس تأتي القدرة على السمع وفهم الأصوات. لكن في بعض الحالات، يواجه الأطفال صعوبات في تفسير ومعالجة المعلومات السمعية رغم أن فحص السمع لديهم طبيعي. تُعرف هذه الحالة باسم اضطراب المعالجة السمعية، وهي مشكلة نمائية تؤثر في قدرة الأطفال على التعرف على الأصوات، تمييز الكلام، والانتباه للمحفزات الصوتية في البيئة. ورغم أن هذا الاضطراب لا يُصنف على نطاق واسع مثل اضطراب طيف التوحد أو اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، إلا أنه يُعد عاملًا خفيًا مؤثرًا في تحصيل الأطفال الدراسي ونموهم النفسي والاجتماعي.
تستعرض هذه المقالة الجوانب العلمية لاضطراب المعالجة السمعية، وتوضح الفروق بينه وبين الاضطرابات الاخرى، بالإضافة إلى استراتيجيات التدخل المبكر والدعم النفسي والتربوي اللازم لتعزيز قدرات الأطفال المشخصين به.
ما هو اضطراب المعالجة السمعية؟
اضطراب المعالجة السمعية هو خلل في الطريقة التي يعالج بها الدماغ الأصوات التي يسمعها الأطفال. بعبارة أخرى، يتمكن الأطفال من السمع، لكن أدمغتهم لا تفسر ما يُسمع بدقة أو بكفاءة. ويظهر هذا الاضطراب غالبًا لدى الأطفال في عمر المدرسة، حين تتطلب البيئة المدرسية القدرة على الاستماع الدقيق واتباع التعليمات، خاصة في أماكن مزدحمة بالضوضاء. لا يتعلق هذا الاضطراب بفقدان السمع، بل بمستوى أعلى من المعالجة السمعية، مثل تمييز الكلمات المتشابهة، أو التركيز على صوت واحد وسط أصوات متعددة.
غالبًا ما يُخلط بين اضطراب المعالجة السمعية واضطرابات أخرى مثل اضطراب تشتت الانتباه، أو اضطرابات اللغة، أو حتى صعوبات التعلم، مما يؤدي إلى تأخر التشخيص وصعوبة في اختيار التدخل المناسب. لذلك، من الضروري فهم الخصائص المميزة له لتفادي التشخيص الخاطئ.
الخصائص السلوكية لاضطراب المعالجة السمعية
الأطفال المشخصين باضطراب المعالجة السمعية غالبًا ما يظهرون سلوكيات مثل صعوبة اتباع التعليمات اللفظية، خاصة إذا كانت معقدة أو طويلة، أو الحاجة إلى تكرار ما يُقال لهم باستمرار. كما قد يبدو أنهم لا يستمعون جيدًا رغم أن قدراتهم السمعية طبيعية. أحيانًا يظهرون سلوك الانسحاب أو الإحباط أثناء الحصص الدراسية أو المحادثات، لأنهم لا يستطيعون مجاراة سرعة الكلام أو التمييز بين الأصوات المختلفة.
تؤثر هذه الصعوبات على التحصيل الدراسي، وخاصة في المواد التي تعتمد على التعليم الشفوي، كما قد تؤدي إلى صعوبات في التواصل مع الأقران والمعلمين، مما يعزز الشعور بالفشل أو الرفض الاجتماعي. وقد يصاحب هذا الاضطراب أعراض نفسية مثل القلق، انخفاض احترام الذات، أو الميل إلى الانطواء.
الفروق بين اضطراب المعالجة السمعية واضطرابات أخرى
غالبًا ما يُخلط بين هذا الاضطراب واضطرابات أخرى لها أعراض متشابهة. فمثلًا، في اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، يكون الانتباه مشتتًا بشكل عام، ويصاحب ذلك سلوكيات اندفاعية. أما في اضطراب المعالجة السمعية، فإن المشكلة الأساسية ليست في الانتباه ذاته، بل في تفسير المعلومات السمعية. كذلك، يختلف عن اضطرابات اللغة، حيث تكون المشكلة في استخدام اللغة وفهمها على مستوى القواعد والمفردات، بينما في اضطراب المعالجة السمعية، تكون المشكلة في استيعاب الأصوات وفهمها حتى قبل أن يتمكن الأطفال من التعبير لغويًا. لذلك، من الضروري استخدام أدوات تشخيصية دقيقة تشمل اختبارات سمعية متقدمة تقيّم كيفية استجابة الدماغ للمحفزات السمعية، إلى جانب ملاحظات سلوكية من الأسرة والمدرسة.
الأسباب المحتملة
رغم أن السبب الدقيق لهذا الاضطراب غير معروف، تشير الأبحاث إلى احتمالية وجود عوامل متعددة، منها الوراثة، وتأخر في نضج المسارات السمعية في الدماغ، أو إصابات دماغية طفيفة قد لا تظهر في فحوصات التصوير العادية. كذلك، وُجد أن بعض الأطفال الذين عانوا من التهابات متكررة في الأذن الوسطى في سن مبكرة أكثر عرضة لتطور هذا الاضطراب لاحقًا، حتى لو تم علاج الالتهابات بنجاح.
تأثيرات الاضطراب على النمو النفسي والاجتماعي
يعاني العديد من الأطفال المشخصين باضطراب المعالجة السمعية من صعوبات نفسية بسبب الفشل المتكرر في البيئة التعليمية. فالمعلم قد يظن أن الطفل لا يستمع، أو لا يبذل جهدًا، ما قد يؤدي إلى فقدان الدعم النفسي والتربوي. كما أن عدم القدرة على متابعة الأحاديث قد يؤدي إلى إحراج الأطفال في المواقف الاجتماعية، فيؤثر على علاقاتهم وثقتهم بنفسهم. لذلك، يُعد الدعم النفسي جزءًا لا يتجزأ من خطة التدخل، بهدف تقوية صورة الذات وتحسين التكيف مع الصعوبات.
استراتيجيات التدخل والدعم
يتطلب علاج اضطراب المعالجة السمعية خطة متعددة المحاور. في المقام الأول، يجب تعديل البيئة الصوتية للأطفال سواء في المنزل أو المدرسة، من خلال تقليل الضوضاء المحيطة واستخدام أدوات مساعدة مثل أنظمة الصوت المعزز. كما يمكن تدريب الأطفال على مهارات سمعية محددة، كتمييز الأصوات، و الانتباه السمعي، وسرعة المعالجة. يستخدم اختصاصيو النطق واللغة استراتيجيات متقدمة لإعادة تدريب الدماغ على تحليل الأصوات بفعالية. كذلك، يشمل التدخل التربوي تكييف أساليب التعليم، مثل استخدام التعليم البصري والكتابي بدلًا من الاعتماد الكلي على التوجيه الشفهي.
الدور الأسري محوري في دعم الأطفال، من خلال الصبر، وتكرار التعليمات بوضوح، وتجنب التوبيخ أو السخرية. يمكن للوالدين التعاون مع المدرسة في وضع خطة دعم تربوية فردية تتضمن تعديل الواجبات، وتقديم وقت إضافي، والمساعدة في تهيئة الأطفال نفسيًا للمواقف التي تتطلب تركيزًا سمعيًا.
خاتمة
اضطراب المعالجة السمعية هو اضطراب نمائي معقّد لا يتعلق بالقدرة على السمع فحسب، بل بكيفية فهم الأصوات وتفسيرها. وغالبًا ما يكون غير مرئي، إلا أنه يؤثر بعمق في تجربة الأطفال اليومية، من المدرسة إلى المنزل إلى التفاعل الاجتماعي. إن الفهم الدقيق لهذا الاضطراب، والتمييز بينه وبين اضطرابات أخرى مثل اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه أو اضطرابات اللغة، يُعدّ الخطوة الأولى نحو تدخل فعّال. ومن خلال خطة علاجية شاملة تتضمن الدعم النفسي، والتدريب السمعي، والتدخل التربوي، يمكن للأطفال المشخصين بهذا الاضطراب أن يتجاوزوا التحديات، ويحققوا نجاحًا أكاديميًا وشخصيًا. الأطفال لا يحتاجون فقط إلى أن يُسمَعوا، بل إلى أن يُفهَموا.
المراجع:
American Speech-Language-Hearing Association. (n.d.). Central auditory processing disorder. ASHA. https://www.asha.org/public/hearing/Central-Auditory-Processing-Disorder/
Chermak, G. D., & Musiek, F. E. (2011). Handbook of central auditory processing disorder: Comprehensive intervention (Vol. 2). Plural Publishing.
Bellis, T. J. (2003). Assessment and management of central auditory processing disorders in the educational setting: From science to practice (2nd ed.). Delmar Learning.
Keith, R. W. (2014). SCAT-5: Screening test for auditory processing disorders. Pearson Clinical Assessment.





